التفجيرات بين الجنائي والسياسي..!
ما إن يحدث تفجير في منطقة ما من مناطق البلاد، حتى يسارع كل طرف من أطراف الصراع الميداني، إلى اتهام الطرف الاخر، وتجريمه وتحميله وزر الدماء السورية النازفة. وفي غمرة الندب والردح والتخوين والاتهام المتبادل على شاشات التلفزة ووسائل الإعلام، يتناسى ويتجاهل الطرفان الأمر الأكثر أهمية، ألا وهو كيفية ايقاف طاحونة الدم الدائرة على الأرض السورية؟
جريمة سياسية وليست جنائية:
من السهولة بمكان اتهام أي طرف للآخر، فالطرفان استخدما كل ما يمكنهما من أدوات عنف، واستخدما كل أساليب التجييش ضد الطرف الآخر، والخطاب الاعلامي لدى الطرفين كليهما حاول دائماً تبرير العنف، بمعنى آخر فإن تسويق أي اتهام يجد له صدى، مما يفتح الطريق على إعطاء الأولوية للقراءات السطحية ذات الطابع الجنائي التي تتناول موضوع التفجيرات، والتي تقتصر على الإجابة على السؤال التضليلي البائس، ألا وهو من يقف خلف التفجيرات، الأمر الذي يؤدي الى المزيد من الانقسام المجتمعي المشوه، والمزيد من التخندق، وبالتالي توليف الوعي الاجتماعي باتجاه «العنف» و«العنف المضاد» .
إن المتهم الحقيقي هو من برر ومارس وسوّق العنف كأداة لحسم الصراع لمصلحته، وهذا ما لم يبخل به الطرفان، بغض النظر عمن بدأ، وبالتالي فإن الانتقام لدماء الضحايا يكمن في ايقاف العنف من كل الأطراف والذهاب إلى الحل السياسي عبر الحوار، وهذا الجانب هو الأهم والأساسي في العملية، لا الدخول في دوامة الاتهامات المتبادلة، وعليه فإن معرفة أداة التنفيذ ليس مهماً بقدر معرفة القوى المستفيدة، فـ«المعلم» الذي يدير اللعبة بـ«حرفية عالية»، يعرف من أين تؤكل الكتف تماماً.
سورية ليست استثناءً
إن هذه النماذج من الأعمال الإرهابية، أصبحت ظاهرة عالمية، بعد إعلان ما يسمى «الحرب على الإرهاب»، فالموت المتجول في أصقاع الأرض المختلفة، رافق عملية عولمة الحرب، لتتفاقم تلك الأعمال وتترعرع وتستمر حسب مدى خصوبة «البيئة الحاضنة» في هذه الدولة او تلك، والأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة أو تلك من مناطق العالم، بالنسبة إلى استمرار هيمنة قوى الرأسمال العالمي.
في أفغانستان كان «الإرهاب» أداة لتبرير التدخل الأمريكي، وكذلك في باكستان. وفي الصومال- واليوم في اليمن ربما- كان أداة للوصول إلى نموذج الدولة الفاشلة، وفي العراق لاستدامة الوجود الامريكي، وتخريب النسيج الوطني العراقي ووضع مقدمات لتقسيمه فعلياً. باختصار كان «الإرهاب والحرب عليه» يلعبان دور القصف التمهيدي والتحضير «للعصر الأمريكي القادم» أي أداة التأسيس لـ«الفوضى الخلاقة»، وإنهاك كل عناصر نموذج الدولة الوطنية التي لم تنجز المهام التاريخية المنوطة بها أصلاً، وخلط الأوراق بغية التحكم باتجاه التطور اللاحق لهذا البلد أو ذاك، أو حتى هذه المنطقة أو تلك.
واستناداً إلى الوقائع في عموم البلدان التي مرت بهذه التجربة المرة، يُلاحظ وجود ذلك الخيط الذي يصل بين ثلاث قضايا أساسية:
التبعية الاقتصادية أو إعادة هيكلة الاقتصادات ليبرالياً، وما أنتجه ذلك من فساد وفقر وبطالة وتهميش، وكبت وقمع سياسي واحتقانات اجتماعية مزمنة وانسداد أفق حضاري، وبالتالي توفر تلك الأوضاع المناسبة لإنتاج التطرف.
مستوى عال من التدخل الخارجي، يأخذ أشكالاً متعددة، إعلامية وثقافية و«إنسانية» ومالية واستخباراتية كحد أدنى، وتدخل عسكري مباشر كحد أعلى.
عدم وجود حركة سياسية فاعلة على الأرض مبنية على أسس وطنية، جامعة عابرة لمكونات ما قبل الدولة الوطنية، من طائفة ودين وقومية، وما إلى ذلك.
عود على بدء، فإن التركيز على الجانب «الجنائي»، على أهميته، وتعمد إغفال البعد «السياسي» العام في الأحداث الأمنية عموماً والتفجيرات خصوصاً، هو منطق لا يقل اشتراكاً في الجريمة عبر تغييب «المسؤول الحقيقي» كشرط ضروري «لمحاسبته»، أي في نهاية المطاف تغيير البنية والبيئة، بمستوياتها وأشكالها المختلفة.