«الآن هنا..أو شرق المتوسط مرة أخرى» (2/2)
رأسمالية مأزومة، وأنظمة تابعة، وحركة سياسية بائسة، وشعوب ثائرة.
في شرق المتوسط الآن شعوب ثائرة، مشبعة بشحنات ثورية هائلة، تريد الولوج إلى عصر آخر بعيداً عن التبعية والاستبداد، بعد أن استنفدت كل البنى السابقة دورها التاريخي.. والمشكلة أنها تصطدم مع أكثر من جهة وبأشكال مختلفة، جهات تبدو مختلفة ولكنها في حقيقة الأمر موحدة في البنية والتكوين، وتنتمي طبقياً إلى قوى الاستغلال، أي أن سلوكها موضوعياً ينصب في اتجاه واحد وهو إجهاض الزخم الثوري لحركة الشعوب بأدوات مختلفة، كي تؤبد سلطة رأس المال، مع ما يستوجبه ذلك من قمع مباشر من البرجوازيات المحلية التابعة، أو ديكتاتوريات دولية «ناعمة» تجهض الحركات الثورية للشعوب بطريقتها، فماهي أدوات قوى الهيمنة الدولية لتجيير النهوض الشعبي لمصلحة مشاريعها في الهيمنة؟
ألغام ديمقراطية
تستغل المراكز الرأسمالية حاجة الشعوب الماسة إلى الحريات السياسية لتسويق نموذج معين من الديمقراطية تطلق عليها ديمقراطية المكونات، تنظر إلى شعوب المنطقة على أنها مكونات إثنية أو عرقية أو دينية أو مذهبية وليس على أساس أنها شعوب لها مصالح واحدة، وتاريخ مشترك، ومصير واحد، ففي شرق المتوسط لم يسجل التاريخ أن أي من هذه المكونات حصل على حقوقه بمعزل عن الآخر ضمن الدولة الواحدة، ويأتي المثال العراقي أو اللبناني كنماذج لديمقراطية المكونات ليثبت هذه الحقيقة، فلم يشهد النموذج اللبناني استقراراً منذ تشكل الدولة اللبنانية وفق البنية الطائفية وهذا ما أثر على كل الطوائف اللبنانية، والكلام نفسه ينطبق على النموذج العراقي الذي صيغ وفق هذا المبدأ ليكون بديلاً عن رفض النموذج السابق من الديكتاتورية، فاستعيض عن الديكتاتور الواحد بالفيتو الطائفي، ليتحول الصراع من كونه بين طبقة اجتماعية تنهب وتستبد كل المكونات، إلى تقاسم الحصص بين أمراء الطوائف والقوميات الذين ينتمون إلى الطبقة ذاتها، وكل واحد منهم يعمل على تأجيج الصراع طائفياً أو عرقياً لديمومة بقائه وكيلاً وحيداً وناطقاً رسمياً باسم هذا المكون أو ذاك وليكون بالتالي كادحو كل المكونات ضحايا صراع النخب.
إن نموذج ديمقراطية الطوائف التي أسست له سياسات الأنظمة الحاكمة، نجد من يحاول قوننته الآن على أساس تعميم نموذج ديمقراطية المكونات مستغلاً الظروف الناشئة بعد النهوض الثوري للشعوب، ومستغلاً في الوقت نفسه غياب القوى الوطنية عن التأثير على الجماهير وقيادة نضالاتها من أجل التغيير الحقيقي بعد أن غُيبت تهميشاً وتهشيماً عن الساحة، والقوى التي تحاول تسويق هذا النموذج تتوزع بين بقايا الأنظمة المهترئة، وأنصار استمرار البنية الرأسمالية التابعة في بلدان الأطراف من المعارضات الوهمية، وانتهاء بقوى الهيمنة على النطاق العالمي، ليشكل هذا الثلاثي المثل الحقيقي لما يمكن تسميته بقوى الثورة المضادة رغم كل الجعجعة الإعلامية وذرف الدموع على الدماء التي تسفك.
إن نموذج ديمقراطية المكونات هو الوسيلة الوحيدة أمام قوى الثورة المضادة للجم النهوض الثوري للشعوب من جهة والحفاظ على مواقع البرجوازيات المحلية، ومصالح رأس المال العالمي، فمن خلالها يتم تأريض الزخم الثوري وتفريغه من محتواه التقدمي التاريخي.
إن هذا النموذج كما أسلفنا لما هو استمرار لما أسست له البرجوازيات المحلية وتثبيتهُ، ودفعه باتجاه العبث بالجغرافيا السياسية في عموم منطقة شرق المتوسط وصولاً إلى عملية التفتيت والتقسيم، أو على الأقل تعميم نموذج الدولة الهشة أو الفاشلة، الصومال نموذجاً، وهذا ما يخالف اتجاه التطور التاريخي الموضوعي الذي يتجه نحو الوحدة والاندماج والتكتلات الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
الشرق العظيم
تحاول قوى الثورة المضادة وضع شعوب المنطقة أمام ثنائية وهمية، وخيارين أحلاهما أمرّ من الآخر، وهما: إما استمرار الوضع الحالي بكل ما فيه من قمع وإقصاء واستغلال وإفقار وتهميش، أو البديل المشوّه عن ذلك والذي يتجسد بما يسمى بديمقراطية المكونات، بينما حقيقة الأمر تكمن في أن لاهذا ولا ذاك يعبر عن المصالح الحقيقية للشعوب، فالأول وصل إلى طريق مسدود وأصبح خارج التاريخ، وبديله الوهمي هو بديل رجعي حتى بالنسبة إلى الأول، وتأسيسٌ لدوامة من الأزمات .. إن البديل الحقيقي المعبر عن مصالح شعوب شرق المتوسط هو البديل الوطني الديمقراطي الذي يحقق ثلاث مهام مترابطة ذات طبيعة تاريخية:
-الحفاظ على السيادة الوطنية ووحدة التراب الوطني، والاعتراف المتبادل بالحقوق.
- فك الارتباط عن منظومة رأس المال العالمي وإنهاء حالة التبعية المزمنة، والسير مع توازن القوى الدولي الجدي الآخذ في التشكل.
- بناء نظم سياسية جديدة تؤمن العدالة الاجتماعية والحريات السياسية.