ثورات الفرات الوطنية وقوماتهم الطبقية.. قومة موحسن 2/2
شارك أهالي الفرات أبناء وطنهم السوري مشاركة فاعلة في محاربة الاستعمار الفرنسي، ومنهم على الأخص البوخابور، وهم أهالي قرى المريعية والبوعمر وموحسن، الذين تميزوا بتجاوز العصبية العشائرية نتيجة التعليم وانتشار الوعي والفكر العلمي والسياسي بشكل مبكر، وخاصةً الفكر اليساري التقدمي (الشيوعي)، وذلك بجهود المعلمين الأوائل ومنهم المعلم ممدوح عباس والمعلم عبد الوهاب حقي، اللذين لا يزال ذكرهما عطراً وحميداً بين أهالي المنطقة، وتابع من بعدهم جيل الشباب الذين حملوا الفكر، وحملوا الراية، واستمروا متمسكين بمبادئهم ومواقفهم كالأستاذ أحمد الدخيل، والرفيق حسين الشيخ عضو الهيئة الاستشارية للجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين..
وكما أن النضال الوطني ضد المستعمر الخارجي هو عماد أساسي من أعمدة الوطنية، فإن النضال ضد النهابين الداخليين، النضال الطبقي ضد الإقطاع وضد الرأسمالية، هو أيضاً، وعلى التوازي، عماد أساسي من أعمدة الوطنية، فلقد كان لأهالي الفرات تاريخ مجيد في مقارعة الإقطاع، وإن غلب على تلك النضالات في معظم مراحلها طابع الفردية وعدم التنظيم، لكن أقواها وأبرزها كان قومة أبناء موحسن رجالاً وشباباً وشيوخاً ونساءً وأطفالاً.. تلك الانتفاضة الفلاحية التي غيبت قسراً من تاريخ سورية ولم يلق عليها الضوء مثلها مثل تاريخ المنطقة الشرقية كاملاً والذي ولاعتبارات مختلفة ووري الظل وبقي ذاكرةً شفوية يتناقلها أبناء المنطقة، ولعل الوحيدين الذين أنصفوها هم الشيوعيون، وكذلك الباحث والمؤرخ عبد الله حنا في كتاباته عن الحركات الفلاحية في سورية، كما كتب عنها القاص التقدمي الراحل سعيد حورانية مسرحيةً قصيرة بعنوان «صياح الديكة».. بل إنّ من كتب عن موحسن من أبنائها تجاهل عمداً، ولاعتباراتٍ سياسية، دور الشيوعيين.. ولعل المخطوط قيد الطباعة للرفيق حسين الشيخ قد دون بموضوعية تاريخ موحسن وقومتها..
شكلت قومة أبناء موحسن ضدّ الإقطاع نقطةً هامة ليس في المنطقة الشرقية فحسب.. بل أيضاً على مستوى الوطن، إذ كانت فاتحةً لنهوضٍ نضال الفلاحين على مستوى الوطن، النضال الذي حقق فيما بعد العديد من المكاسب كالإصلاح الزراعي، وتخفيض سقف الملكية، واعتبار الأرض لمن يعمل بها، وإنشاء مزارع الدولة.. وكل تلك المكاسب جرى التراجع عنها في السنوات الأخيرة بسبب السياسات الليبرالية التي جرى التخطيط لها وتنفيذها بالتعاون بين البرجوازية البيروقراطية والطفيلية، فتم حل مزارع الدولة الرابحة -رغم الفساد والنهب- بقرارٍ سياسيٍ أقلّ ما نقول عنه إنه خطأ كبير، إذا لم نقل إنه جريمة تجب محاسبة المسؤولين عنها، كما تمّ رفع أسعار المحروقات ومستلزمات الإنتاج الزراعي ورفع سقف الملكية، وأعطيت أراضي الدولة وحتى أراضي المنتفعين من الإصلاح الزراعي إلى شركاتٍ وهمية بأسعارٍ بخسة بالتآمر مع بعض الجهات التنفيذية والإدارية، كشركة نماء في قرية المريعية، بل هُدد الفلاحون المعترضون على ذلك بقطع اليد منها، واعتقلوا وعذبوا واتهموا بتهمٍ هم منها براء، ولم يحاسب أحد على جريمته.. وبالتالي عاد الإقطاع من جديدٍ بشكل وأسلوبٍ جديدين، وبرعايةٍ حكومية، ناهيك عن القرارات والقوانين التي دمرت الزراعة في سورية، محولةً إياها من دولةٍ مصدرةٍ ولديها دائماً فائض من القمح إلى دولةٍ مستوردة، والأسوأ من ذلك أنّ الفاسدين باعوا حتى الاحتياطي الاستراتيجي، وكادوا أن يسببوا مجاعةً للشعب.. وأيضاً لم يحاسب أحدٌ على ذلك!!
وكانت الجمعية التعاونية الأهلية التي أنشأها أبناء موحسن بجهودهم وجهود الشيوعيين، من أوائل الجمعيات التعاونية، وقد حققت في عامٍ واحد مكاسب كبيرة للفلاحين.. وكانت بداية للتنظيم الفلاحي التعاوني، الذي حقق مكاسباً وحقوق للفلاحين، وجرى إفراغه من محتواه بسبب الهيمنة والفساد، ورغم ذلك ما زالت له مواقف ضدّ اللبرلة بسبب إرثه التاريخي.. ولابد من إلقاء الضوء على قومة أهالي موحسن الفلاحية برؤيةٍ تاريخية ليس لتوثيقها فحسب.. وإنما لاستلهام هذا التاريخ، والوقوف في وجه السياسات الليبرالية وقوى الفساد والنهب، والتمسك بالأرض التي هي بالنسبة للفلاحين كما العِرض.
بدأ تغلغل الإقطاع ممثلاً بالتاجر المرابي محمد سعيد هنيدي عام 1939، حين عقد صفقة مع وجهاء العشيرة باستثمار منطقة الحاوي مناصفةً مع الفلاحين، ولا تزال أسرار الصفقة ودور الحاكم العسكري الفرنسي فيها خافياً حتى الآن، ثم قام المرابي بتطويب نصف الأرض 8500 دونم بغفلةٍ من الفلاحين، وبقي النصف الآخر معلقاً، وفي عام 1944 نصب مضخة ديزل ومد ساقية ري وتوسع باستثماراته لتشمل أرض الحاوي وما عليها، وفي عام 1946 توترت العلاقة مع الفلاحين وهددوه بمنع مرور ساقيته من أراضيهم في النحامة والدكوكة، فشعر بخطورة الموقف واتفق معهم مجدداً على تسجيل نصف الحاوي لهم مقابل تسجيل نصف النحامة والدكوكة له، ونفذ الفلاحون ذلك ونكث هو بوعده.. أي أنه استولى على الحاوي كاملاً وإضافة إلى نصف أراضيهم، وتحول معارضوه للعمل سراً بسبب تحصنه القوي بالمال والدولة والوجهاء، عقد المرابي بعد ذلك اجتماعاً مع الفلاحين فطالبه فلاحان فقيران بالأرض، فقال: لا أحد له عندي شيء.. وفي أوائل الخمسينات حاول جميل هنيدي بالسر تطويب الحاوي كله 16500 دونم، وكان إقطاعيا مستبداً وتعامل مع الفلاحين بخسة كرأسمالي وملاكٍ عقاري، وأقام منشآتٍ أخرى كالطاحونة وخانات للأغنام وجمع المحاصيل، وازداد طغياناً واستغلالاً في الزراعة والتجارة والربا وشراكة الأغنام والسخرة والطماس، وتطاول على حقوق وكرامة الفلاحين شتماً وضرباً، مما ولد احتقاناً كبيراً، فبدأ التمرد على يد بعض الفلاحين عام 1953، ثم امتد ليشترك فيه جميع الفلاحين، حيث بدؤوا بحفر سبعة آبار في وسط الحاوي ليلاً، كل فخذٍ له بئر، وانبثق الماء بعد حوالي أربعة إلى خمسة أيام مع الحداء والزغاريد، فاستنجد ابن هنيدي بمئات العمالٍ من عشيرته لتوظيف العصبية العشائرية لردم الآبار ومنع الفلاحين من زراعة أرضهم، واستنجد أيضاً بالدرك والهجانة والمصفحات العسكرية والكلاب البوليسية لكون عبد الرحمن هنيدي وزيراً للداخلية في عهد أديب الشيشكلي، فهب الفلاحون جميعهم على خيولهم وحميرهم وراجلين يحملون ما لديهم من أسلحةٍ بسيطة وعصي، وطردوا المهاجمين وقطعوا السواقي وأوقفوا المحركات، فاتخذ الصراع شكله الطبقي الحاد والواضح، وتميز بوحدة الإرادة والعمل والشجاعة، إذ لم ترهبهم كل وسائل القمع الموجودة، واعتقل قسم منهم وقادوا مظاهرةً إلى المحافظ محمد نور الله الذي استمع لمطالبهم وطرد وكيله، وكانوا يهوسون بقصيدة شاعرهم حمود العبد الله (العواشي):
يا جميل أشوفك بِديـــن
شبعان ومِنتَ بحالنا
جنّب عن الحاوي يمين
انريد انعَيّش اعيالنا
كما قتلوا أحد عملائه الخونة وضاع دمه بينهم، ووضعوا قضيتهم العادلة أمام الرأي العام والصحافة فنشرتها جريدة الصرخة الشيوعية في عدد 4 تموز، وفي جريدة بردى الدمشقية بعدد 18 تموز تحت عنوان الفلاح بين فكي الإقطاعية والقانون، ولما خرج الموقوفون خرجوا يهوسون في شوارع المدينة أي يهتفون:
ابن هنيدي صاير واوي
عالدكَة الصّارت بالحاوي
وتضامن معهم أهالي دير الزور وأولهم الشيوعيون ومحامون وأطباء وأساتذة وعمال وقدموا عريضةً موقعة من 500 شخص في تلك الأيام ونشرت في الصحف جاء فيها:
(نحن الموقعين أدناه، أهالي دير الزور، نؤيد فلاحي قرية موحسن في نضالهم لاسترداد أراضيهم المغتصبة من قبل الإقطاعية المجرمة التي نشأت وترعرعت في الفرات بين أحضان الاستعمار الفرنسي، وإننا نهيب بالحكومة الوقوف بحزمٍ في وجه الإقطاعية الغاشمة، كما نستصرخ الشعب السوري في الانتصار لحقوق فلاحي موحسن المهضومة).
واستعاد الفلاحون أرضهم وحقوقهم، وهذا يؤكد أنه لا يضيع حقّ وراءه مطالب.. وقد استفاد الفلاحون من الوضع العام المناسب بانتصار ثورة أكتوبر على النازية وإنجازاتها ومبادئها بالعدالة والمساواة ونصرة الشعوب المضطهدة، وشدّ أزر العمال والفلاحين وتحالفهم. وكذلك انتصار ثورة الصين الشعبية.. وفي أوائل الخمسينات رفع الحزب الشيوعي شعار الإصلاح الزراعي، وتمكين الفلاحين من الأرض والوقوف معهم ضدّ الإقطاع..
وكان للحزب الشيوعي دوره في قومة موحسن، في دعمها واستنهاضها في الإعلام والمحاكم وحشد الأنصار والمؤيدين ضدّ الإقطاعي.. ناهيك عن مشاركة الشيوعيين الشباب مع أهاليهم..
وما أشبه اليوم بالأمس.. حيث جرى التراجع عن الكثير مما حققه الفلاحون خلال نضالهم وتضحياتهم عبر السياسات الليبرالية من خصخصة واستثمارٍ وهمي وتهميش وقمع حريات وما نشأ عنها من نكوصٍ وارتداد بإعادة إنتاج أكثر العلاقات تخلفاً.. من عشائرية وغيرها.. وعاد الإقطاع من جديد لكن بشكل رأسمالي مستثمر، يفرض شروط العمل التي يريدها وهناك من يسانده..
إنّ استحضار هذا التاريخ الطبقي المشرف لأهالي موحسن وللشيوعيين والفخر به، والذي يحاول البعض تجاهله والبعض الآخر محوه، في هذا الوقت بالذات، ليس مقصوداً منه المطالبة بتدوينه وتوثيقه وتدريسه فقط.. وإنما لاستلهامه في مواجهة هذه السياسات والإقطاعيين الجدد وأساليب القمع، وكشف وتعرية المنافقين والدجالين، واجتثاث الفساد والفاسدين الكبار أولاً.. وقبل كل شيء.