التوافق الدولي والتأرجح على حبال التوازن

التوافق الدولي والتأرجح على حبال التوازن

بات واضحاً بأن التوازن الدولي الجديد، يطبع بطابعه مجمل العمليات الجارية في عالم اليوم، وتجري بالتدريج عملية الاستقطاب دولياً وإقليمياً ومحلياً داخل كل دولة، باتجاه الاصطفاف مع أحد طرفي التوازن، مع القوى الصاعدة، أو مع القوى المتراجعة.

تتعدد القراءات المضللة المتعلقة بهذه الظاهرة الجديدة في العلاقات الدولية، ويبرز منها اثنتان:

القراءة الأولى، تنطلق من أن طرفي التوازن هما قوى كبرى، والتوافق القائم هو مجرد تقاسم نفوذ، ويذهب البعض أبعد من ذلك إلى الحديث عن صفقات تحت الطاولة. 

قراءة أخرى تنطلق من الإقرار بالتوازن الجديد، لتذهب بمحاولة الاستفادة من طرفيه معاً، طالما أن الطرف المتراجع، ما زال يمتلك الكثير من النفوذ السياسي والعسكري، وطالما أن الكثير من النخب، ترتبط مع المركز الإمبريالي بشبكة مصالح متشعبة!

المشترك بين القراءتين، بغض النظر عن غايات من يطلقهما هو، أنهما تكشفان عن بؤس معرفي وسياسي، في فهم محتوى التوازن الدولي الجديد، وماهيته، وبالتالي اتجاه تطوره ومآلاته، وتالياً الاصطفاف في الموقع المطلوب، وصولاً إلى السعي للعب على حبال التوازن.

جدل التوازن والتوافق

 

التوافق الدولي الراهن ليس عملية إرادوية، بل هو بالضبط نتاج تناقض مشاريع، وتناقض رؤى حول مستقبل العالم، وهو نتاج تراجع قوى دولية، وتقدم قوى أخرى، بمعنى آخر هو توازن الأمر الواقع، المفروض على قطب دولي، هو القطب الأمريكي، وتقدم قطب آخر تتزعمه روسيا الاتحادية، كل بما يمثل من بنية اقتصادية اجتماعية، ومصالح، وإرث ثقافي، وإمكانات، وعليه فإنه أبعد ما يكون عن منطق الصفقات التقليدية، وتقاسم النفوذ بين الدول الاستعمارية الكبرى كما جرى في الحرب العالمية الأولى.

التوازن عملية تاريخية مستمرة، لن يتوقف عند مستواه الحالي، طالما أن أسبابه مستمرة، أي طالما أن الأزمة الرأسمالية مستمرة، ولما كانت هذه الأزمة عصية على الحل فإن التقدم الروسي عملية مستمرة، ولأن التقدم الروسي في جوهره، يعني إعادة الاعتبار للشعوب في تقرير مصائرها، فلا ينفعن أحد النوم في العسل، والاستفادة من هذا الدور الصاعد لإعادة انتاج الوضع السابق فقط، أي توظيفه للحد من تطلع الشعوب نحو تغيير جذري وعميق.

التوافق لا يعني انتهاء الصراع، بل يعني تغيير شكله من الحرب المباشرة، إلى حرب المشاريع السياسية، وبالتالي هو سيحتدم ويتصاعد، ولكن ضمن منطق وشروط وأدوات القوى الصاعدة، أي في إطار تحديد المعركة، وتوقيتها، وحتى المنتصر فيها.

إن أي اختراق للقوى المتراجعة في هذه أو تلك من البؤر الساخنة، هو اختراق مؤقت، ولا يعني تغيير الاتجاه العام، المتمثل بالتقدم الروسي، ومثل هذا الاختراق في أحسن الأحوال، هو محاولة لتحسين الوضع التفاوضي في الحلول السياسية التي أصبحت خياراً يعبر عنه الطرف الصاعد في التوازن، ويفرضه بديلاً عن إشعال الحرائق.

إن وضع إشارة مساواة بين الدور الروسي، والدور الأمريكي في التوازن الدولي الجديد، هو في العمق اصطفاف في الخندق الأمريكي.

البراغماتية  الأمريكية مهدده

 

تعتبر البراغماتية من خصائص السياسة الأمريكية تاريخياً، وتجسدت في جانب منها بمحاولة احتواء أطراف متناقضة، وبالتالي الحفاظ على خيوط تواصل مع كل الأطراف، وإرسال إشارات دعم وتطمين إلى أطراف عديدة متناقضة في الوقت نفسه، هذه البراغماتية تقاطعت في الصراعات الدائرة في عالم اليوم، مع مصالح وطريقة تفكير تلك القوى التي تتسم مواقفها بالزئبقية، وعدم قدرتها على حسم الخيارات، والتأرجح في المواقف، ولكن اختلاف مشاريع طرفي التوازن، بحكم البنية الاقتصادية الاجتماعية، والسياسية لكل منهما، ستضيق هوامش المناورة في سياق العملية، فمن أهم خصائص الطغمة المالية المتمثلة  بقوى رأس المال المالي، ذات النزعة الشايلوكية الربوية في الاستحواذ على الثروة، محاولة الاستفراد بالهيمنة على القرار الدولي، الأمر الذي يتناقض مع الدور الروسي الصاعد، ووزنه الاقتصادي والعسكري، مما يعني حكماً اشتداد الصراع وتعمقه أكثر فأكثر، وهو ما سيفرض على كل القوى حسم خياراتها بالوقوف في خندق أحد الطرفين.

 ومن جهة أخرى فإن محاولة الاحتواء المركب التي تستخدمها الإدارة الأمريكية لقوى متناقضة بحد ذاتها تصبح مهددة في اللحظات الانعطافية الحاسمة، فالإدارة الأمريكية مضطرة مثلاً اليوم، لحسم خياراتها فيما يتعلق بالدور التركي، وخصوصاً ما يتعلق بالقضية الكردية في داخل سورية، وفي تركية نفسها، الأمر الذي يفرض عليها الكشف عن وجهها الحقيقي باستخدام الورقة الكردية كورقة ضغط وابتزاز لا أكثر. 

إذا كانت محاولة اللعب على الحبال ممكنة، في المراحل الأولى من تشكل التوازن الدولي الجديد، فإنها ليست ممكنة في مرحلة تبلوره وتطوره وترسخه، ونتيجته الوحيدة سقوط في الهاوية، وبالتالي فإن النزول سريعاً من القطار الأمريكي، هو طوق النجاة لأية قوة تريد أن يكون لها مكان في إطار عملية التطور التاريخي، أما من يحاول ركوب هذا القطار، في محطة افتقد فيها أغلب أدواته المحركة فإنه يعبر عن خبل سياسي لا أكثر ولا أقل.

 مصالح متناقضة

 

إنّ الارتكاز إلى المسلمة المعروفة بأن لكل دولة مصالحها التي تدافع عنها، والانطلاق منها للمساواة بين روسيا وأمريكا ودورهما، وكما أسلفنا يصب في نهاية المطاف في السلّة الأمريكية، إذ يعزز فكرة «تقاسم النفوذ» وأفكار التقسيم والتفتيت.

صحيح أن لكل دولة مصالحها ولكن هل كل المصالح سواء؟ بوقفة متأنية يظهر أنّ المصلحة الأمريكية اليوم ليست فقط مصلحة دولة الولايات المتحدة الأمريكية، بل هي مصالح هذه الدولة بوصفها مركز الإمبريالية المأزوم، والساعي للخروج من أزمته الاقتصادية- الاجتماعية العميقة بالحروب وبتوسيع الحروب بشكل مستمر، وبالضغط على القوى الصاعدة المطالبة بموقعها المناسب لوزنها على الخريطة السياسية- الاقتصادية العالمية.. أي أنّ مصلحة واشنطن، وتحديداً بشقها الفاشي الجديد، لا تزال في المزيد من التوتير والأزمات والحروب، وحتى شقها «العقلاني» لا يمانع الاستفادة من «جهود» الفاشي في إعاقة تقدم الخصوم ما دامت هذه الجهود مضبوطة بحدود معينة تمنع الانهيار الصاعق للشقين معاً.

بمقابل ذلك، فإنّ روسيا وحلفها الدولي وفي مقدمته الصين، لا مصلحة لها في توتيرٍ وأزماتٍ على تخومها. أزمات تستهدفها هي نفسها في نهاية المطاف.. ولذلك فإنّ كل من له مصلحة في استقرار المنطقة وفي عدم تفتيها وتخريبها أكثر مما هي خربة، سيجد نفسه موضوعياً إلى جانب روسيا وحلفائها..