التغيير المطلوب من وجهة نظر الاقتصاد السياسي

تعيش سورية في ظل أزمة عميقة هي في الجوهر أزمة بنية، وتحتاج للخروج منها إلى القطع مع البنية السابقة وصولاً إلى بنية جديدة، والمقصود بالبنية تلك الدرجة من التناسب بين علاقات الإنتاج القائمة والشكل السياسي المعبر عنها من جهة، ودرجة تطور القوى المنتجة وتطور حاجاتها من جهة أخرى.. وينبغي لتثبيت هذا الاستنتاج، المرور على مجموعة من الطروحات التي تذهب نحو كون الأزمة الحالية هي أزمة تمرحل، أي انتقال من مستوى إلى آخر أعلى منه ضمن البنية نفسها، حيث يكمن في خلفية هذه الطروحات نظرة سكونية إلى الواقع السوري، تعمل على القياس مع أوروبا وفق المنطق الأرسطي دون رؤية جديدة للواقع الجديد الداخلي والعالمي، ولعل البداية التي تؤسس لفهم اقتصادي- سياسي حقيقي للواقع الجديد تبدأ من تفنيد التسمية التي يروق للكثيرين استعمالها لتوصيف الاقتصاد السوري والاقتصاديات النامية عموماً، وهي الرأسمالية المشوهة..

 

 

رأسمالية «صحيحة» ورأسمالية «مشوهة»!!

ينطلق أصحاب التوصيف الآنف الذكر - أي توصيف رأسمالية بلدان العالم الثالث بالمشوهة- من قياس منطقي يعودون من خلاله إلى الرأسمالية كظاهرة تاريخية ظهرت أول ما ظهرت في أوروبا، ويتابعون على الخط الزمني مراحل تطورها من سيطرة البرجوازية الصناعية خلال مرحلة المزاحمة الحرة، إلى سطوة رأس المال المالي وسيادة الاحتكار في عصر الامبريالية، وصولاً إلى النيوليبرالية التي أحدثت القطع النهائي مع الكينزية وتالياً مع مدرسة الاقتصاد السياسي الكلاسيكي عائدة القهقرى باتجاه الميركانتيلية، وهم عند هذا الحد من القراءة يمتلكون منطقاً قوياً تتأتى قوته من قراءة الوقائع التي وقعت فعلاً وتجريدها للخلوص إلى النتائج، ولكن الأخطاء تبدأ بالانتقال نحو التطبيق، فهم إذ يعالجون الاقتصادات النامية يحاولون قولبتها ضمن القالب الزمني الكلاسيكي لتطور الرأسمالية في بلدانها الأصلية، وبذلك يصبح مبرراً بالنسبة لهم أن يصفوا رأسمالية بلدان العالم الثالث بالمشوهة، ذلك أنها لم تتقدم وفقاً للمخطط المسبق الذي تطورت وفقه الرأسمالية «الصحيحة»، حيث لم تكد تدخل بلدان العالم الثالث في طور التصنيع - الذي لم تكمله- حتى تم الانتقال نحو اقتصاد الخدمات السائد عالمياً، وعليه فإنهم يقترحون حلاً وحيداً هو العودة إلى النص المقدس للتطور الطبيعي للرأسمالية، أي يجب على البلدان النامية أن تمر بمرحلة البرجوازية الصناعية الوطنية ومن ثم الاحتكار وصولاً إلى اقتصاد الخدمات من جديد، وتلك الرغبة الجامحة في العودة إلى الأصول تملي عليهم قراءتهم للأحداث السياسية الجارية على أنها تمرحل في إطار تطوير البنية القائمة.. ولعل الواقع يعنّف هذه الرؤية ليس فقط من باب أن التاريخ مأساة في حدثه الأول ومهزلة في تكراره، بل وأيضاً من الباب الآخر الأهم وهو غياب المنطق الديناميكي في رؤية الواقع، وتحديداً غياب بل وتغييب العولمة الاقتصادية بوصفها رسملة عالمية مكتملة النصاب يفرضها المركز على الأطراف، ويملي على البنى الطرفية  تطوراً محكوماً إلى معادلات خارجية أقوى من السير «الصحيح» و«الطبيعي» للتجربة المخبرية التي يحاولون إعادة تطبيقها على البلدان النامية..

هل يمكن الحديث عن برجوازية وطنية؟

يتطلب السير وفقاً للمراحل الكلاسيكية لتطور الرأسمالية «الصحيحة» الاعتماد على البرجوازية الوطنية، التي تكتسب صفة الوطنية من كونها صناعية أي تعمل على دفع عجلة النمو والتنمية في البلد المعني، وتطور القوى المنتجة، وتقوي الاقتصاد المحلي. هذا وفقاً للتعريف الكلاسيكي، فهل يمكن الحديث عن برجوازية كتلك في بلدان العالم الثالث، بل هل مسموح وجودها؟.. إن القارئ الموضوعي لخريطة تقسيم العمل العالمي التي تفرضها الكتل المالية الكبرى - مستخدمة أدواتها الاقتصادية (صندوق النقد ومنظمة التجارة..)، والسياسية (الديمقراطية والتعددية التي تخدم وصول التمثيلات السياسية للبرجوازيات التابعة)، والعسكرية (الناتو ودروعه المختلفة)، والأيديولوجية (التخرصات الدينية-السياسية، والطائفية والعرقية والإثنية..الخ)- يرى أن إمكانية نشوء برجوازية صناعية في بلدان العالم الثالث هي إمكانية معدومة ضمن البنية نفسها، وإن تجارب مثل النمور الآسيوية والبرازيل لم تكن سوى حل مؤقت لمشكلة الفائض من خلال تصدير الرساميل، والذي غدا اليوم تدويراً للرساميل عبر المشتقات المالية لا يلعب أي دور إنتاجي، وكل ما يقوم به هو التغطية على التضخم من خلال سرعة التداول الجنونية..

 

تمرحل أم قطع..؟

ينتج عن الاستناد إلى فكرة «تشوه» الرأسمالية في بلدان العالم الثالث البحث عن العودة إلى التطور «الصحيح»، وبما أن التطور«الصحيح» ليس سوى افتراض نظري خاطئ كما بينا سابقاً فإن الإصرار على تصحيح المشوه، والإصرار تالياً على التمرحل، لن يفعل سوى أن يزيد تبعية الأطراف للمركز ويعمق الأزمات القائمة من خلال حصر الأفق المطلوب للتغيير بمقولات محاربة الاستبداد والديكتاتورية السياسية وأدواتها الأمنية بطبيعة الحال، الأمر الذي نراه جلياً في طروحات الجزء الأكبر من شخصيات المعارضة السورية وحتى في أوساط النظام، حيث المطلوب وإن لم يصغ من قبلهم بعد هو ثورة وطنية ديمقراطية تعيد بناء دولة المواطنة والحرية والمساواة والإخاء «الفرنسية» على الأرض السورية، ومرة أخرى يصطدم هذا المطلب بكونه مهزلة.. فهو من جهة مكرر ومن جهة أخرى غير قادر على تقديم حل حقيقي، فالثورة الفرنسية التي ولّدت دولة المواطنة وما إلى هنالك من شعارات وقوانين على المستوى التشريعي هي تحديداً ومن حيث الجوهر الثورة التي ثبتت السلطة السياسية في يد البرجوازية الصناعية المتطورة والسائدة اقتصادياً، فاتحة بذلك الباب أمام القوى المنتجة للتطور من خلال تحرير البرجوازية للعبيد وتحويل الفلاحين إلى عمال زراعيين، الأمر الذي يختلف أيما اختلاف عن متطلبات الوضع السوري حيث يمكن صياغة مطلب البنية السورية بأنه ثورة وطنية ديمقراطية معاصرة تتحد فيها المطالب السياسية وتندمج اندماجاً عميقاً مع المطالب الاقتصادية- الاجتماعية، فسورية اليوم بحاجة إلى نمط عال جدا من الحمائية الاقتصادية وليس الانفتاح، يدعم هذه الحمائية إنتاجٌ صناعي ضخم تقوده دولة معادية سياسياً للمركز الإمبريالي الذي لن يسمح لدولة «صديقة» بالتطوير الصناعي.. ومن هنا يصبح فهم التغيير المطلوب أكثر عمقاً وأعلى مسؤولية، حيث ينبغي الانتقال إلى بنية سياسية تحارب الفساد والرؤى الليبرالية التابعة، وتعزز الحريات السياسية الحقيقية التي تعبر عن مصالح القوى المنتجة، وتكرس ممانعة المركز الرأسمالي ومعاداته، وتنقل الممانعة إلى مستوى المقاومة والهجوم.. بذلك فإن التغيير المطلوب ليس تمرحلاً ولكنه قطع حقيقي مع البنية السابقة يحمل الإيجابي منها وينبذ السلبي مضيفاً الضروري الجديد لنقل سورية إلى بنية جديدة يطلبها شعبها ويطلبها التاريخ..