قفزات للمشروع الليبرالي السوري
تشهد اللحظة الحالية من الأزمة السورية، تصعيداً عالياً، ليس فقط بالعنف ومستوى السلاح والعمل الدبلوماسي الخارجي، وإنما هجوماً شرساً، لأمراء الفساد السوري، وممثليهم في الحكومة العتيدة الحالية وفي بنية النظام السوري.
ولا تتجلى هذه الهجمة في أروقة الفساد الداخلية فقط، وإنما على المنابر الحكومية وبأصوات عالية لوزراء في حكومة «الأزمة» المنتهية الصلاحية، ومن مواقع عالية الحساسية من حيث الأمن الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي الوطني في سورية مثل وزارة النفط، والمصرف المركزي وغيرها من المفاصل الاقتصادية الرئيسية.
عود على بدء
منذ الإعلان الصريح عن تبني اقتصاد السوق الاجتماعي، طرحت مجموعة من القضايا الإشكالية سار معظمها بوتائر عالية السرعة، مثل تخفيض الإنفاق الحكومي، وتحرير الأسواق المالية، والسماح للشركات القابضة بالعمل والاحتكار(حيث تم وبارتباط وثيق مع تدفق المال الخليجي وسمسرة رؤوس الأموال السورية لعملية استقدامه وتمليكه، تأسيس شركة سورية – قطرية قابضة برأس مال 200 مليون دولار، تلاها في أعوام 2006-2007 تأسيس شركتي الشام القابضة التي يقدر نشاطها بحوالي %60 من النشاط الاقتصادي السوري، وشركة سورية القابضة التي يقدر نشاطها بحوالي مليار دولار أميركي. وقد ضم هذان التجمعان الماليان حوالي مئة مستثمر، ومجموعات صناعية تجارية، ووجوه مسيطرة في غرف التجارة والصناعة السورية)، وبتناغم مع مصالح مجمعات السلطة والمال هذه، تم تقديم تسهيلات استثمارية أيضا بوتائر عالية وبتجاوزات دستورية أحياناً، وكذلك كانت عملية التحرير الكامل للتجارة.
أما مع بداية الأزمة السورية،فقد انبرت أصوات عالية لتندد وتوضح حجم الضرر الناجم عن مثل هذه الإجراءات، وعكست اعترافات الحكومة بكافة مستوياتها «شعور الندم» والإدانة للإجراءات المتبعة، و تم بتشدق عالي المستوى النحيب على الزراعة المتراجعة والصناعة المتردية من التحرير والانفتاح الاقتصادي غير المدروس، والحكومة الراحلة التي خربت البلد، و«عفا الله عما مضى»، و«فلتذهب بحال سبيلها»... إلا أن قضايا أخرى بقيت موضع جدال واسع، ولم تستطع قوى الليبرالية والفساد من فرضها كأمر واقع نتيجة ممانعة قائمة على عوامل متعددة، ربما من أهمها هو دور الدولة الواسع والضامن نسبياً الذي قام عليه الاقتصاد السوري لعقود عديدة، فكان من الصعب إنجاز عملية خصخصة القطاع العام على سبيل المثال بشكل كامل، وكان من الصعب فرض تحرير كامل للسوق السورية، وتحديداً فيما يتعلق بالمشتقات النفطية، والأهم أنه كان الحديث عن تعويم الليرة من جانب الدردري وفريقه هو من أسرع القضايا الإشكالية التي تمّ إغلاقها تحت عنوان: الليرة هي نقطة ارتكاز في الاقتصاد الوطني، ولا يجب التخلي عن دور الدولة الناظم الضابط لتسعيرها.
اليوم، وأمام إعلان وزير النفط عن ضرورة إنهاء الدعم المقدم للمواطن والمنتج السوري، وعن رفع أسعار الغاز، يتوضح مدى سطوة وقدرة أصحاب المشروع الليبرالي في سورية على فرض إجراءاتهم، في أوقات حرجة، وضمن حالة الاحتقان العالي المستوى الذي تشهده سورية، ومآلاته الخطيرة...
إجراءات قيد المساءلة والاتهام
نتوجه بأسئلتنا واستنتاجاتنا إلى أصحاب الشأن لنقول:
- كيف تعلنون صراحة عدم قدرتكم على محاربة الفساد المقدر بـ800 مليار، والتهريب المتوسع، والتهرب الضريبي الذي يقدر بـ200 مليار ليرة، وتعلنون ضرورة التعامل مع هذه القضايا كأمر واقع لا راد له؟ وأين إجراءات الدولة الأمنية السورية، التي تطالب أغلب الأصوات المعارضة بالتخفيف من وطأتها، في هذا المكان؟.
- كيف تعلنون عدم قدرتكم على ضبط التجار وحالات الاحتكار العالية المستوى، تاركين لهيب الأسعار ليحترق به محدودو الدخل، ويوزع تعبهم وجهدهم ولقمة أطفالهم أرباحاً ريعية لكبار المحتكرين، حيث بلغ ارتفاع أسعار سلعنا الغذائية عن نظيرتها العالمية حوالي %66، عدا عن السلع الكمالية الأخرى والارفاعات الأخيرة؟ ولماذا لا يكون هذا الريع المتراكم مصدراً لموارد الدولة عوضاً عن جيوب المواطنين؟.
- كيف تدعمون السوق السوداء التي مارست سابقاً وتمارس حالياً، دوراً شبه سيادي مشرعناً ضمنياً، يسهم في تغيير قيمة الليرة السورية والمزاودة والمضاربة عليها، ووضع هوامش عالية لتغيراتها تزاد على أسعار المستوردات، وتعرض القيمة الشرائية لليرة للتآكل، بل يتم التواطؤ معها حتى أصبحت مؤسسات الدولة تعمل بمنطقها، ولا أدل على ذلك من المزايدات التي كان المصرف المركزي يقيمها على الليرة السورية في المرحلة الأخيرة، و«التعويم الموجه» المطروح للنقاش الآن؟.
- كيف تعلنون وبأصوات عالية وبمبررات فارغة، أن الضرورة تقتضي التوفير من الإنفاق على المواطنين (وإجراء إلغاء النقل المجاني للموظفين إلى دوائرهم ليس آخرها)، وبالمقابل إعطاء مرافعات مجانية حول وعي المواطنين للأزمة وضرورة تحملهم للأعباء وضرورة انتظارهم للمكاسب التي ستتدفق عليهم جراء إستراتيجية دعم الناهبين وإذلال الفقراء، التي وكما يقول وزير النفط وتشيعها وسائل الإعلام المحلية المتسترة على فضائح الحكومة في مقولة فيها الكثير من الاستخفاف بمحاكمة المواطن العقلية، أن توفير دعم المازوت كان سيؤمن موارد للدولة بحدود 25 مليار، قد توزع على مليون عائلة فقيرة كصدقة، أو قد تشغل حوالي مئات آلاف العمال، براتب عشرة آلاف ليرة، وهنا يكفي أن نسأل عن الموارد الموفرة من تخفيض الدعم السابق والتي أعلنتها حكومة الدردري سابقاً وبلغت حوالي 300 مليار ليرة، وأثرها على التشغيل والنشاط الاقتصادي؟.
علاقات متعدية بسيطة
حماية المهربين وشرعنتهم حماية المحتكرين ممارسات أمنية رخوة على الفاسدين ومتشددة أمام خزانات الاحتقان الشعبي.
ضرب الحراك الشعبي السلمي من أطراف متعددة تخفيض الوزن الشعبي الذي يضغط ضد الفساد وتجنب تسييسه وبلورته إلغاء المكتسبات التاريخية التي اكتسبها الشعب السوري وفرضها على جهاز الدولة ضرب جهاز الدولة في سورية بزيادة انحرافه الطبقي وتجنيده لخدمة الفساد زيادة حجم العمالة والاختراق والتجنيد الخارجي داخل هذا الجهاز.
هذه العلاقات المتعدية البسيطة، تبرر اتساع حجم اللبرلة في قمة الأزمة السورية، والتطبيق الواضح والصريح لسياسات حماية الفساد بأشكالها المتعددة في الحكومة الحالية، يوضح حجم الارتباط المباشر أو العفوي مع التصعيد الخارجي، فالكل يعمل بنغم متناسق على تصعيد الاحتقان، وعلى ضرب جهاز الدولة وإضعافه، وعلى قطع شعرة المصداقية الأخيرة، وبالتالي زيادة الاستعصاء أمام الحل المتمثل بالحوار وبحكومة وحدة وطنية.
حكومة الوحدة الوطنية
يفترض على حكومة الوحدة الوطنية أن تنقل الوزن الشعبي إلى داخل جهاز الدولة، مستفيدة من صلاحياته، في مواجهة تحالف المال والفساد المتمترس، وهذا شرط لتأمين مناخ الحوار الملائم، وبيئة تمتص الاحتقان، وهو ما يشترط اقتصادياً:
- ضرب الفساد الكبير، وإعادة توزيع موارده.
- المحاسبة العلنية والشفافة لرموزه.
- القطع مع السياسات الليبرالية الاقتصادية ومحاسبة رموزها.
- السير نحو نموذج النمو العالي والعدالة الاجتماعية العميقة.
■■