!الأزمة السورية والجدل في البديهيات
حسان ثابت حسان ثابت

!الأزمة السورية والجدل في البديهيات

  بعد أن فعل الواقع الموضوعي فعله و خرج المارد الشعبي من القمقم، وبعد أن بدأ الزلزال السياسي الذي حرّك ويحرك كل ما هو راكد، وبعد أن تأكد أن هذا الزلزال له من الشدة والدّوي ما هو قادر حتى على إيقاظ أهل الكهف، وبعد أن اصبحت وسائل الإعلام جهة أساسية لتوجيه الرأي العام، بعد كل هذا دخلت كل المفاهيم ضمن دائرة الجدل بما فيها تلك البديهيات التي تشكل في العادة ثوابت ومقدسات في ثقافة الشعوب والأحزاب والأفراد،  ومنها الموقف من التدخل الخارجي.

قبل أن نعمل على تحليل ونقد فكرة تبرير التدخل الخارجي نعترف سلفاً بأن هؤلاء «الأبالسة» في المواقع المختلفة يستطيعون حتى استجرار الأنبياء للجدل في وجود الخالق من عدمه بعد أن فتحت لهم أبواب وسائل الاعلام  فها هم يفرضون الجدل في بديهيات الوعي الجماهيري.

من نافل القول إنّ المناخ الملائم للتدخل الخارجي تهيأ إثر استخدام الحلول الأمنية وارتفاع منسوب الدماء، مما أدى إلى دخول البلاد في أزمة وطنية عميقة، وفي الوقت الذي كان من المطلوب من جميع القوى السياسية السورية العمل للخروج الآمن من الأزمة عبر حلول ابداعية تستنبط من الواقع، وتأخذ موازيين القوى الداخلية والاقليمية والدولية بعين الاعتبار بدل كل ذلك تم التعاطي مع الموقف بطريقة أقرب إلى «الشرمطة السياسية» من بعض قوى المعارضة فراح يبرر التدخل الخارجي تحت هذه الحجة، لا بل راح يدعو إليه والأنكى من ذلك تم اتهام كل من يرفضه بأنه مع النظام، واختلف عرّافة المعارضة التقليدية في تأويل الموقف فمنهم من راح يسميها بحماية المدنيين، ومنهم من جعلها مقتصراً على الحظر الجوي ودخلوا وحاولوا أن يُدخِلوا غيرهم في دوامة التفسيرات المتعددة مع العلم أن المفهوم من ألفه إلى يائه ليس له سوى معنى واحد، وهو محاولة استغلال الحراك الشعبي المشروع، ومحاولة التحكم باتجاه سير الأحداث وعملية التغيير الموضوعية الجارية بما يتوافق مع المصالح الاستراتيجية لتلك القوى، ومع المصالح الانتهازية التافهة لبعض قوى المعارضة.  

ان الرفض المشروع لاستقواء النظام على الشعب، ورفض محاولة كبح جماح الحركة الاحتجاجية السلمية بقوة الحديد والنار هو واجب وطني وأخلاقي ولكن ذلك لايعني اقتناص الفرصة من قبل هذا الرهط المعارض لتسويق فكرة استدعاء التدخل الخارجي، وإذا اختار أحدهم مثل هذا الموقف فهذا شأنه ولكن لايحق له ادّعاء تمثيل الحركة الاحتجاجية، فليس من المنطقي والعقلاني القول إن الناس تخرج إلى الشارع مطالبة بحقوقها المشروعة لكي تسلم البلاد إلى قوى أجنبية كانت على الدوام ضد مصلحة الشعب السوري منذ مرحلة ماقبل وجود النظام الحاكم نفسه وحتى الآن، والمهزلة أن استجلاب التدخل الخارجي هنا ينطوي على حسن الظن بذلك الخارج واعتباره المنقذ والمخلص، وكأن الإدارة الأمريكية يهمها حرية الشعب السوري، أو أن الشيخ حمد أصبح ثورياً....

إن مشكلة الشعب السوري مع الخارج لاعلاقة لها بالنظام، فأياًّ كان النظام الحاكم ومهما كانت سياساته وسلوكه فثمة أرض سورية محتلة وثمة مشروع دولي في المنطقة، التي تشكل سورية تاريخياً إحدى قواها الفاعلة بغض النظر عن طبيعة النظام، وعليه فإن الوطنية السورية والتي من المفروض أن تكون خارج صراعات النظام والمعارضة تقتضي العمل على تحرير الأرض، وتقتضي العمل على رفض المشاريع الغربية المعلنة والمستترة ، وعندما يتصرف أحد بغير ذلك يحق لنا أن نستنتج والحالة هذه بأن اختباء بعض قوى المعارضة خلف سلوك النظام لاستدعاء التدخل الخارجي لا يأتي كرهاً بالنظام بقدر ما هو خدمة لذلك الخارج؟ لأن الخارج بوجود هذا النظام و بعدم وجوده كانت مشاريعه قائمة.

ربما كان بالإمكان تفهم الأمر لو كان الداعي إلى ذلك مواطناً اعتقل، أو استشهد أحد من ذويه، فقاده رد الفعل الى أخذ مثل هذا الموقف باعتبار أن التدخل الخارجي هو أحد أشكال «التغيير» حسب الوعي الشعبوي، ولكن الملاحظ أن أغلب نجوم فرقة أنصار التدخل الخارجي الذين يتصدرون الشاشات هم من رواد فنادق الخمس نجوم، والمثير أن عدداً غير قليل منهم وأكثرهم صراخاً هم ممن كانوا جزءاً من منظومة النظام أو على حواشيه في فترات سابقة.

إن الخلاف مع النظام وحتى الدعوة الى إسقاطه ربما يكون مفهوماً اختلف المرء مع ذلك أم اتفق، بشرط أن تأتي في سياق طرح رأي بحل الأزمة بما يتوافق مع المصالح الوطنية، أما عندما تكون الدعوة إلى الاسقاط مترافقة مع الدعوة الى التدخل الخارجي الأمر الذي يعني نسف السيادة الوطنية وتعميق الازمة، وخيانة الحراك الشعبي نفسه في الصميم لأنه يغيّر كل احداثيات الحركة الاحتجاجية، فيعتبر أمراً ملتبساً ومشبوهاً، واستغلالاً تافهاً للدماء السورية الغالية.

وفي اطار الجدل حول هذا الموضوع تحدث بعض« فلاسفة » المعارضة عن الدور الروسي في الازمة، واعتبروه شكلاً آخر من التدخل الخارجي، وكأن موضوع التدخل الخارجي هو مفهوم جغرافي فقط، ويتجاهل أمّعات المعارضة هنا الفارق بين هذا الخارج وذاك في محاولة يائسة لتسميم الوعي الاجتماعي.

إن الخارج «في الحالة الروسية» هو خارج لا يمتلك مشروع تفتيتي في المنطقة، ولا تتناقض مصالحه ومحاولته الى لعب دور متجدد على الساحة الدولية مع مصالحنا الاستراتيجية، إلا إذا شطبنا من جدول الأعمال مفاهيم التنمية والتحرر والديمقراطية والسيادة الوطنية، أما الخارج الآخر« الإدارة الأمريكية وملحقاتها» كان ومنذ تشكل الدولة السورية في الطرف المعادي، ودون التذكير بالكثير من الوقائع التي يعرفها تلامذة المرحلة الابتدائية في بلادنا يكفي القول استخدام الفيتو 60 مرة لمصلحة اسرائيل، أم أن اسرائيل نفسها لم تعد عدواً ومن الممكن أن «تساعدنا» في اسقاط النظام؟؟؟؟؟

بعيدأ عن اتهام أحد بالعمالة، رغم أنه حق مشروع في هذه الحالة لأن الفكر البشري لم يبتكر بعد تسمية أخرى لهكذا مستوى من التعامل المفضوح مع أعداء بلد ما، بعيداً عن الاتهام نقول إن مشكلة هذه النخبة« المعارضة» أنها لا تدرك أن من تعتمد عليه مأزوم من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، وهو مضطر الى الانكفاء على المستوى الدولي بحكم الأزمة التي تعصف به، وأن الرهان عليه هو أشبه بالرهان على بغل عجوز في سباق ماراتوني، وما لاتدركه هذه النخب ايضاً أن الخارج الاخر« روسيا» إنما يتدخل ليس لسواد عيون النظام، بل دفاعاً عن مصالحه أولاً وقبل كل شيء، وأنه يستطيع فعل ذلك لأن الآخر في تراجع أي أن التناقض الموجود في المواقف الدولية تجاه الازمة السورية هو تناقض على آفاق التطور العالمي اللاحق قبل أن يكون مع النظام أو ضده.

وثمة إشكالية أخرى تتعلق بالموقف من التدخل الخارجي، وتظهر هذه عند بعض الموالاة، وهذا البعض يرى في الموقف الدولي الداعم فرصة للانقضاض على الحركة الشعبية السلمية بقوة القبضة الأمنية، وليس لرد التدخل الخارجي، ومثل هذا الموقف هو الوجه الاخر لفهم النخب المعارضة آنف الذكر واستكمالاً له ولو في موقع آخر فهو أيضاً لايدرك الجديد الذي يفرض نفسه على البنى التقليدية التي استنفدت دورها التاريخي، وأنها ستتغير بحكم القوانين الموضوعية وقوة الجماهير العائدة إلى الشارع، شاء من شاء وأبى من أبى.