ما بعد فيينّا
يشكل اجتماع فيينا الأخير، الذي أبرز مهمة الحرب على الفاشية كضرورة دولية، نقطة علّام إضافية في تبلور التوازن الدولي الجديد، إقليمياً ومحلياً ضمناً، ما سيدفع قوى الفاشية الجديدة إلى محاولة توسيع ضرباتها في أنحاء العالم، رداً على ذلك التوافق المستجد بخصوص إنهاء أدواتها الإرهابية.
برز بشكل واضح في اجتماع فيينا الطرح الروسي حول ضرورة الحرب على الإرهاب، والذي أثبتت موسكو ريادتها فيه باعتراف الجميع، وذلك بالتوازي مع دعوتها المستمرة لتسريع الحل السياسي للأزمة السورية. أما المتغير الجديد فهو أن الهجمات الدامية في لبنان ومصر، ومن ثم في فرنسا تحديداً، والتي سبقت الاجتماع، دفعت- خلافاً لمآرب المخططين والمنفذين- وبغض النظر عن التحفيز العنصري الفرنسي الداخلي المضاد، إلى قيام تحول لافت في الموقف الفرنسي، وخلفه الأوربي عموماً، بما سيفضي إلى الدخول في مرحلة مواجهة الفاشية.
بكلام آخر، وفي ظل استنفاد القوى الفاشية في واشنطن لاحتياطاتها وأدواتها الإجرامية في مرحلة التراجع، ضمن الأزمة الرأسمالية الراهنة، وتحولات ميزان القوى الدولي، سيضطر الدور الأوربي للدفاع عن الذات، وبالتالي مواجهة الفاشية، والدفع، عاجلاً أم آجلاً، نحو مزيد من الاستقلال الفعلي عن الولايات المتحدة، وفتح الباب بشكل أوسع للاستدارة الموضوعية نحو الشرق، حيث يتم العمل جدياً على مهمة إنهاء الفاشية الجديدة، مع فتح آفاق حلحلة جزء من المشاكل الاقتصادية لأوروبا.
بالاتجاه ذاته سيفرض على «الجناح العقلاني» في الولايات المتحدة سمت المرحلة المقبلة، حيث سيضطر، من موقع اللحاق بالركب، لرفع مستوى ضرباته الجدية للتنظيمات الإرهابية في المنطقة، طالما أن دوره في الحرب على الإرهاب سيوضع على محك الاختبار الجدي في ظل التقدم الحاصل في هذه المهمة من الأطراف الدولية الأخرى، وهو ما سيفتح المجال لتبلور تحالفات جديدة لإنجاز هذه المهمة.
بالتوازي مع ذلك يمكن القول إن مهمة تقليم وصياغة دور القوى الإقليمية ستكون أحد أركان المرحلة القادمة، وستكون مشمولة بشكل أو بآخر في سياق حلحلة الأزمة السورية بعملية سياسية، مترافقة مع الحرب على الإرهاب، ما سيفرض على الجميع وقف دعم وتمويل وتسليح المسلحين كلهم، كون الاستمرار في ذلك يهدد عملية وقف إطلاق النار، وضرب الإرهاب، اللّتين ثبتهما بيان فيينا، إلى جانب مهمة فرز القوى الإرهابية وعزلها عن غيرها من قوى المعارضة المسلحة المستعدة للانخراط في العملية السياسية ومكافحة الإرهاب بآن معاً.
وسيغدو أي تعطيل للمهمات الأخرى الواردة في البيان، ارتباطاً بحل الأزمة السورية، بما فيها محاولات هذا الطرف أو ذاك الفصل أو المفاضلة بين مكافحة الإرهاب وإطلاق العملية السياسية، خروجاً عن التوافق الدولي في مواجهة الفاشية، ونفخاً في روح قوى الإرهاب التي تتنفس من الانقسام السوري، القابل للانتهاء بحكم هذا التساوق المفضي إلى التغيير الوطني الديمقراطي الجذري والعميق والشامل في المجالات كافة.
ورداً على ذلك ستستنفر بعض القوى الدولية، وإن بأذرع إقليمية، لمهمة إبطاء السير نحو العملية السياسية، وذلك من مدخل تصعيد الصراع العسكري وما سيجلبه ذلك من ردود مقابلة، من جهة، ومن جهة أخرى في اللعب بورقة تشكيل وفد المعارضة، تلك المهمة المعدة للإنجاز خلال الشهر القادم، إلا أن أولئك المعطلين سرعان ما سيجدون أنفسهم ضد تيار حل الأزمة السورية المتشابك في ملفاته كافة، من الحرب على الإرهاب، النقطة الأزخم في التوافق الدولي الجديد، وصولاً إلى ضرورة حل الأزمة سياسياً كمدخل ضروري لإنهاء ذلك الإرهاب.