تمايزات بين القطبين
جبران الجابر جبران الجابر

تمايزات بين القطبين

تطرح، في المناقشات، آراء متنوعة، تتناول الدول الكبرى، وتتمركز على الدولتين القطبين، وهما روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية ،ويستند أصحاب تلك المعادلة إلى أن الدوليتن رأسماليتان وأن كل الدول تسعى لتأمين مصالحها.

وللوهلة الأولى فإن البعض يتأثر بتلك الآراء، وخاصة أن عالمنا بعد الاتحاد السوفيتي هو عالم رأسمالي تغلغلت به علاقات الإنتاج الرأسمالية.

ديالكتيك  العام والخاص والمنفرد

إن خصائص الرأسمالية لم تكن في يوم من الأيام، متطابقة في الدول كافة، وفي كل مراحل التطور، رغم أنه معروف أن الرأسمالية مقولة معطاة لمعرفة وتحديد النظام الاجنماعي القائم على العمل المأجور والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.

إن أي مقولة ليست موجودة في حالتها النقية لأنها تجريد علمي يكشف العام بين الظواهر، ويرتبط وجود تلك المقولة العامة ووجودها الموضوعي الملموس بالخاص والمنفرد، وحتى الرأسمالية في البلد الواحد تطورت وتغيرت وأخذت خصائص لم تكن معروفة من قبل.

إن وضع إشارة المساواة بين الظواهر التي تتضمن عاماً مشتركاً هو إنكار لأهمية الخاص ودوره في الظاهرة وتطورها، إن شكلانية فهم الظواهر تؤدي للقول إن القمح هو مثل الفاصولياء لأنهما من عام واحد هو الحبوب، وكذلك الأمر في الماء والسوائل أو في الحديد وغيره من المعادن.

إن إهمال وإنكار أهمية الخاص والمنفرد يعود إلى اللامعرفة، وهو نفي للترابط الوثيق بين تلك الموضوعات الثلاثة، وتجدر الإشارة أنه لا يوجد شيء في الطبيعة والمجتمع بدون ترابط العام والخاص والمنفرد، ناهيك عن أن إنكار دور وأهمية الخاص ينتهي إلى زج الظواهر كلها في بوتقة وإطار واحد، كما أن ذلك ينفي دور الخاص في تطور الظاهرة وينفي التمايز بين الظواهر وعلاقتها.

إن اللهاث وراء التأكيد على التماثل بين الظواهر بين الظواهر ذات العام المشترك يؤدي إلى نفي نسبية التماثل بين الظواهر، والغرق في مسائل التماثل المطلق.

رأسمالية الولايات المتحدة

سقنا ذلك تنويها إلى أن الرأسمالية في الولايات المتحدة، رغم العام المشترك بينها وبين الرأسماليات الأخرى إلا أن لها خصائص من حيث هي ظاهرة لها وجودها الخاص وتطورها، ويمكن القول إن التطور إلى مرحلة الامبريالية واحتكاراتها استند إلى تراكم رأسمالي غير اعتيادي ولم يقتصر على استغلال العمل المأجور، بل كانت مصادره الاستيلاء على ثروات وأراضي السكان الأصليين. ثم كانت عبودية أفواج الأفارقة وما أدت إليه من اشتداد أبشع صور الاستغلال والإضهاد، أما المصدر الآخر للتراكم فقد جاء من (الحديقة الخلفية) للولايات المتحدة الأمريكية فتعرضت دول أمريكا اللاتينية للنهب الممنهج الذي ما زال العديد منها خاضعاً له، وما زالت ثروات البلدان النامية مصدراً أساسياً للتراكم.

إن أشكال التراكم الرأسمالي رافقها اضطهاد وتنكيل، وأدى ذلك إلى عائلات معدودة ثرية مثل آل فورد، ولم تكتفِ باستحواذ الثروات، بل تمتاز بأساليب اجتماعية كرست العنف كأداة لتمركز الثروة.

لقد اجتازت الولايات المتحدة المرحلة الأولى للرأسمالية، ودخلت مرحلة الرأسمالية الاحتكارية في مطلع القرن العشرين، وتطورت إلى مرحلة الاحتكارات ما فوق القومية، وبنت الهرم الاحتكاري وأضافت خصوصيات جديدة كان أخطرها المجمع الصناعي العسكري.

إن الاحتكارات تخطت كونها نتيجة اندماج الرأسمال البنكي والرأسمال الصناعي، وقد ازداد الاستغلال واستغلال نتائج العلوم، وكما اشتد تصدير الرأس مال المالي، ولعبت الديون دورها في نهب البلدان النامية والأخطر (هو إمساك كبار الاحتكاريين في مجال النفط والأسلحة بالقرارات الاستراتيجية، وأصبحت الحروب أكثر ضرورة للاحتكارات من ذي قبل وتحولت الأزمة الرأسمالية إلى ظاهرة دولية تشمل العالم بأسره.

الرأسمالية في روسيا الاتحادية

انهار الاتحاد السوفيتي وترافق ذلك زمن يلتسين بنهب قطاع الدولة والاستيلاء عليه بما فيها القطاعات الاستراتيجية كالنفط والغاز والسلاح.

ونشرت مجموعة الرعب الاجتماعي والسطو المكشوف على ملكية الدولة وسعت لإلحاق روسيا بالاحتكارات الكبرى، واعتمدت تهريب الثروات إلى الدول الأخرى، لكن تلك المجموعة انهارت تحت وطأة أزمة أوائل هذا القرن، خاصة بعد أن انتهت مرحلة يلتسن، وبدأت مرحلة بوتين الذي أعاد القطاعات الاستراتيجية إلى ملكية الدولة وشجع على تكوين شركات صغيرة ومتوسطة، وقد بلغ عددها آلاف الشركات.

إن تدابير هامة اتخذت في روسيا بما فيها جباية الضرائب وملاحقة بعض من نهبوا قطاع الدولة وأعيدت للدولة ملكية آلاف المزارع وجرى تحديد الاستثمار ولم تتكون في روسيا احتكارات أخرى، وأصبحت ملكية الدولة الأساس في عملية التراكم الرأسمالي.

لقد أدت العمليات الاقتصادية إلى سمات لقطاع الدولة، فهو لم يتكون خدمة لمصالح الاحتكارات، وأصبح الدعامة الاقتصادية الأولى، ويتكون في إطار امتناع الاحتكارات عن توظيف رؤوس الأموال في هذا المشروع أو ذاك إلى تدابير روسية دفاعية، واستراتيجية دفاعية من شأنها كبح العدوانية الأمريكية، وقد انعكس ذلك في سياسات روسيا مع الدول الأخرى التي ترمي إلى كبح الإنسياق وراء الولايات المتحدة الأمريكية، يضاف إلى ذلك أن الجهد الاقتصادي الروسي مع الدول الأخرى يتمثل في توظيفات مالية معظمها من قطاع الدولة، ولم يكن ذلك نتيجة أن روسيا تعتمد تصدير رؤوس المال المالي، فهي أحوج ما يكون للأموال من أجل رفع وتيرة استثمارات ثرواتها المتعددة والمتنوعة، وهذه العلاقات الاقتصادية لها دورها في تنشيط النزاعات الوطنية التحررية وتحسين المواقع التفاوضية للدول النامية ويلاحظ أنه حتى العمليات العسكرية التي تقوم بها روسيا الاتحادية، تدخل الأزمات في أجواء جديدة مخالفة لاستراتيجية استمرار الحروب الداخلية التي تعتمد الولايات المتحدة عليها لفرض مصالحها والخروج من أزمتها.

وللثقافة دورها

إن الثقافة لها دورها، وخاصة أنها ليست انعكاساً مباشراً للبناء التحتي، وهي تحظى بميزة الثبات النسبي وهي من موقعها الوسطي بين البناء التحتي والبناء الفوقي، تأخذ طابع الاستمرارية من جيل إلى آخر، وبذلك فإن تأثيرها ذو ميزة الاستمرارية في التأثير عبر أجيال متعاقبة.

إن الكثير من قادة روسيا الاتحادية تكون وعيهم السياسي، في المرحلة السوفيتية، فلم ينته تأثير قيم الاشتراكية، وما زالت قيم رفض الاستغلال والإلحاح على المساواة وحق الشعوب في تقرير مصيرها تجد حواملها البشرية وتنتقل من جيل إلى جيل، ناهيك عن القيم الوطنية وتقديرها عند كل شعب من الشعوب، ثم إن روسيا تاريخياً لم تتكون فيها بورجوازية كبيرة واحتكارية لا قديماً ولا حديثاً، ولم تشارك في اقتسام العالم بعد الحرب العالمية الأولى، ومن المعروف أن لينين فضح المعاهدات السرية بين الحلفاء ومنها «سايكس بيكو» ولعبت دوراً كبيراً في تحرير شعوب أوربا الشرقية من النازية الألمانية، وقد كان لكل ذلك تأثيراته في الثقافات والعلاقات مع الشعوب الأخرى، ولسنا في مجال تبيان كل الجذور التاريخية للثقافة الروسية التي منها تولستوي وغوغول وغيرها.

إن إشارة المساواة بين الرأسماليات الراهنة لا يقف عند إنكار التمايزات السياسية، بل يتضمن بصورة مباشرة أو غير مباشرة نفي التمايزات والاختلافات بين رأسماليات الدول النامية والرأس ماليات الاحتكارية، فهل هذا علم ومعرفة أم أنه جهل أو تجاهل بحقائق الأمور ودفاع مبطن أو سافر عن النهب الاحتكاري والاستعمار والتبعية والاستراتيجيات العدوانية وتنشيط الحروب الداخلية وديمومتها، أما بالمقابل القيمي لذلك فهو الظلم وشرعية اللامساواة والاستغلال والنهب والفساد.