المسألة الكردية جدلية الخاص والعام!
عامر الحسن عامر الحسن

المسألة الكردية جدلية الخاص والعام!

أصبحت المسألة الكردية في سورية على جدول الأعمال بحكم الأمر الواقع، وباتت كغيرها من جوانب الأزمة السورية ساحة تجاذب بين القوى الدولية والإقليمية والحركة السياسية السورية، بما فيها الحركة القومية الكردية نفسها، حيث أصبح هذا الملف بأوجاعه المزمنة، والاحتقانات التي راكمها خلال عقود من الزمن، وفي ظل امتناع أطراف الصراع في النظام والمعارضة عن الحل عبر الحوار، أصبح مادة على طاولة البازار الإقليمي والدولي، بما على هذه الطاولة من صفقات ووعود وأوهام وابتزاز وحقوق، وخصوصاً بعد تشكيل إطارات «معارضة» في الخارج على نموذج «الائتلاف»، والتي تبنت خطاب مكونات ما قبل الدولة الوطنية، ومروراً بتطورات المشهد العسكري الميداني، وصولاً إلى مرحلة ازدياد دور قوى التكفير والتدخل العسكري الأمريكي المباشر في الأزمة، من بوابة الحرب على الإرهاب.   

ورقة ضغط أم حلول واقعية؟

القاسم المشترك بين مقاربات أغلب القوى للمسألة الكردية حتى اللحظة، هو محاولة جعلها ورقة ضغط لا أكثر من قبل هذه الجهة أو تلك، في إطار الصراع الجاري في سورية وحولها، الأمر الذي أضاف تعقيداً آخر على جملة التعقيدات المتعلقة باتجاه تطورالقضية الوطنية، وعلى هذه المسألة نفسها، لاسيما وأن أغلب النخب السياسية الكردية تعاني عموماً من قصور معرفي في عملية تحليل المرحلة التاريخية الراهنة، وأبعادها، كما يبدو، حيث صاغت هذه النخبة رؤيتها على أساس الانطلاق من الخاص لرؤية العام، واستندت إلى ما هو آني و يومي، دون الأخذ بعين الاعتبار حركة الواقع وطابعها المركب، وايقاعاتها السريعة والمتواترة، وتناقضاتها، والأهم دون ملاحظة توازن القوى الدولي الجديد عالمياً وانعكاساته الإقليمية، هذا الإشكال المعرفي أدى ببعض القوى القومية الكردية  المصنفة في خانة المعارضة التقليدية، إلى وضع البيض كاملاً في سلة ما يسمى «الائتلاف الوطني السوري» صاحب الدورالبارز في خلط الأوراق وتعقيد الأزمة، والدور العلني في محاولة توظيف الأزمة ومنذ بداية الحركة الشعبية لخدمة الآخرين، وحاولت تلك القوى الكردية بناء شبكة علاقاتها الإقليمية والدولية، على أساس محاكاة تجربة المحاصصات التي تبناها «الإئتلاف» المذكور لغايات وأهداف معروفة، وأولها محاولة الوصول إلى السلطة بأي ثمن كان، بما فيه الانخراط في تسويق مشروع الفوضى الخلاقة رغم ما يشكله من نتائج كارثية على الجميع.


الصراع على النموذج

يعتبر الصراع الجاري في جزء منه صراع على النموذج الديمقراطي اللاحق للبلاد، وتحاول العديد من القوى في سياق نضالها الديمقراطي المزعوم، استبدال الضبط القسري لقوى المجتمع «الاستبداد»، بنموذج «ديمقراطية» المكونات التي تعني استناداً إلى التجارب الملموسة تقاسم السلطة والثروة بين نخب تلك المكونات، وبالتالي استغلال حاجة المواطن إلى الانتماء والاحتماء لتكريس دور هذه البنى التقليدية، مستغلة غياب دور حقيقي للدولة، لفرض زعامة هذه النخب على من يزعمون تمثيلهم من جهة، وبالتالي إمكانية تحكمهم بمجموع تطور البلاد من جهة أخرى، وذلك من خلال ما يملكونه من «فيتو» تم تخويلهم باستخدامه بزعم تمثيل طائفة أو قومية أو دين، يحق  لهم استخدامه متى شاءت مصالحهم الخاصة، حتى لو تعارض ذلك مع مصلحة الكل الوطني، هذا النموذج موضوعياً يضع الكل في مواجهة الكل، لاعلى أساس تناقض المصالح الاجتماعية كأمر طبيعي في أي مجتمع استغلالي، بل على أساس مصالح النخب نفسها، وبالتالي يشتت قوى الأغلبية المنهوبة لمصلحة الناهبين، وربما يدخلها في أتون معركة هي ليست معركتها بالأصل، وبالتالي يعيق التطور الموضوعي الذي يتجسد في هذه المرحلة التاريخية من تطور المجتمع البشري ككل، بالاندماج ليس داخل كل بلد فقط، بل حتى على المستوى الكوني، فيصبح هذا النموذج الديمقراطي والحال هذه في بلد مثل سورية عائقاً مصطنعاً أمام التطور الطبيعي الذي تعكسه وحدة المصالح، والتاريخ والمصير المشترك لهذه «المكونات».


إعادة صياغة الخطاب القومي

من الضروري في هذا السياق إعادة صياغة الخطاب السياسي الكردي على أساس رؤية عميقة في قراءة المشهد العالمي وتأثيراته الإقليمية، والداخلية، وتحديداً ملاحظة وجود تبدل في ميزان القوى العالمي، وتراجع الدور الغربي عموماً، والأمريكي منه على وجه الخصوص، فأكثر ما تستطيع الولايات المتحدة فعله اليوم هو إشاعة الفوضى، وإنهاك القوى المختلفة، وهي أعجز من ان تستفرد بالحل كما كانت في السابق، كما أن مستوى تعقيد الوضع يتطلب ضرورة معرفة الوزن الحقيقي للمسألة الكردية في المعادلات السياسية الداخلية والإقليمية بعيداً عن تورّم الأنا القومية، أوالرهان على الخرائط المرسومة، والمسربة قصداً على يد«المهندس» الغربي وماكينته الإعلامية الدعائية بهدف ضخ جرعات جديدة من الثنائيات المطلوبة لاستمرار الوضع المتوتر، ومن الضروري استثمار زيادة  الوزن النوعي للمسألة الكردية ضمن هذه الرؤية حتى تكون في الاتجاه الواقعي المطلوب، ولتجنب المزيد من الخسائر، التي قد تكون كارثية في مثل هذه المنعطفات، فعلى الرغم من زيادة هذا الوزن، يجب الانتباه إلى تلك الخسارات الاستراتيجية الكبرى، في ظل تبدل التحالفات والمحاور الدولية والإقليمية، كإحدى خاصيات المراحل الانتقالية والتي دفع الكرد ثمنها مراراً، لاسيما وأن القضية الكردية عموماً هي  قضية دوليه من حيث النشوء والبنية.  
تجري على الصعيد الميداني محاولات محمومة لتوتير الوضع البيني الكردي، ويشكل إفراغ مناطق بكاملها من السكان وخصوصاً الأجيال الشابة بسبب استمرار النزوح والهجرة الجماعية إلى بلدان الاغتراب في ظل الوضع المتوتر، والنتائج الاقتصادية الاجتماعية والإنسانية لذلك تحدياً كبيراً وتهديداً للوجود.
تؤكد التجربة الملموسة، أن «الوضع الكردي» بأبعاده المختلفة يتعقد طرداً مع تعقد الوضع السوري العام، الأمر الذي يؤكد مرة أخرى بأن مستقبل أكراد سورية لا ينفصل عن مستقبل سورية نفسها، ومصلحة الأكراد السوريين تكمن بالضبط في العمل من أجل الإسراع بالحل السياسي بين السوريين، بما يفتح الطريق إلى التغيير الجذري والشامل الذي يعبر عن مصالح أغلبية السوريين بغض النظرعن انتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية.. وهذا ما يفترض التجاوب والتنسيق مع جهود القوى الدولية والإقليمية والداخلية الساعية الى هذا مثل هذا الحل.


ثوابت وطنية، ديمقراطية!

إن أي حل حقيقي للمسألة الكردية، يجب أن يستند على جملة ثوابت لا يجوز بحال من الأحوال تجاهلها، أو القفز من فوقها كونها تعكس الواقع الموضوعي، ولعل أولى هذه الثوابت هو العمل لحل المسألة الكردية ضمن حل شامل للأزمة السورية نفسها وباعتبارها أن المسألة في الأصل هي جزء من قضية الديمقراطية في البلاد، ومن هنا فإن أعلى درجات التنسيق مع القوى الوطنية والديمقراطية من أجل الحفاظ على وحدة البلاد وحل سياسي وعملية تغيير عميقة وجذرية وشاملة، بما فيها منع استمرار وتكرار سياسات التمييز والتهميش والإقصاء وإنكار الوجود، وضمان الحقوق القومية الثقافية في سورية الجديدة،  التي تعتبر إحدى الثوابت التي لا يمكن خارجها إنجاز أي حل جدي، بحكم الجغرافيا السياسية، وبحكم ما تفرضه هذه الأخيرة من وحدة المصالح والتاريخ والمصير المشترك...