«الأولويات» المجزوءة: ملف «خلافي» تحت الطلب!
تعمل القوى المتشددة الموالية والمعارضة، كلٌ من موقعها، على اقتباس أولوياتها الخاصة من منظومة الحل السياسي الشامل، في إطار محاولاتها المتكررة للحفاظ على مواقعها، لتخلق بذلك مادة خلافية جديدة تعمق الانقسام وتعطل الحل
مع بلوغ الأزمة السورية حدوداً قصوى من حيث تفاقم الأزمة الكارثية التي يعانيها الشعب السوري بسبب استمرار الصراع العسكري المدمر، ومن حيث استنزاف مقدرات البلاد الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والعسكرية، ومع نضوج الظروف الدولية والإقليمية لإطلاق الحل السياسي للأزمة السورية، وإنطلاق الحراك الممهد لتلك العملية في العديد من عواصم الدول الكبرى والإقليمية، تبدي جميع الأطراف المتصلة بالأزمة السورية موافقتها على الحل السياسي. وتشمل تلك الموافقة القوى المتشددة في طرفي الصراع، الموالي والمعارض، التي لم تعد تجد بداً من الإقرار اللفظي بهذه الضرورة بسبب عقم خطابها الداعي للحلول العسكرية، إلا أنها وفي الوقت ذاته تشتغل على الارض لإحياء كل ما من شأنه أن يعرقل الوصول إلى الحل السياسي. وأكثر ما تعتمد عليه تلك القوى من أجل تعطيل ذلك الحل هو إحياء كل التناقضات الثانوية والوهمية للتشويش على الضرورات الحقيقية والملحة.
ليس بخفي على أحد، أن لعبة إشعال التناقضات الثانوية بدأت في الأزمة السورية مع إشعال ثنائية «موالي- معارض»، التي لم تعبر يوماً عن حقيقة الفرز الجاري في المجتمع السوري، والتي وصلت اليوم إلى الحضيض بعد خروج معظم السوريين من قطبيها، بعدما وحدهم حال الفقر والجوع والتشرد والموت، نتيجة استمرار الحرب المدمرة التي غذت أوارها تلك الثنائية الثانوية. وظلت القوى المتشددة تعمل على توليد تناقضات جديدة، كالطائفي والمناطقي والقومي والعشائري، بالإضافة إلى الخطاب السياسي المتشدد والداعي إلى الحلول العسكرية المتواصل على طول الخط.
ومن بين أشكال التلاعب التي انتجتها القوى المتشددة الموالية والمعارضة لفتح «ملف خلافي» يخدم الطرفين في إعاقة الوصول إلى الحل السياسي، هو الصراع حول «الأولويات» فيما تتعرض له البلاد من ظروف قاسية. وفي هذا السياق، يقوم الطرفين بتفكيك مفردات الحل السياسي وإعادة ترتيبها بنحو يخدم أطرافاً على أطراف، خارج إطار مصلحة البلاد الكبرى وبدون أي درجة من المسؤولية الوطنية. فيجري مثلاً وضع القضايا الضرورية كـ«مكافحة الإرهاب» و«العملية السياسية» في مقابل بعضها البعض وكأنها متعارضة. بل وتجري أحياناً محاولات إنعاش مقولات «الحسم» و«الإسقاط» من خلال إقحامها ضمن منظومة الحل السياسي، كالقول بأن «الحل السياسي يبدأ بعد رحيل النظام»، أو في المقابل جعل «بقاء النظام» شرطاً للحل السياسي.. والأمثلة كثيرة.
إن حقيقة ما يقوم به المتشددين من خلال ذلك، هو استبدال الكل، الذي هو الحل السياسي، بالجزء، الذي هو أحد مهام الحل السياسي، بما يخدم في نهاية المطاف برنامجي الحلول العسكرية، «الحسم- والإسقاط»، وإخراج مفردات الحل السياسي من منظومته الشاملة، التي تفترض موضوعياً السير بالعمليات الثلاثة (وقف الكارثة الإنسانية،
من خلال إيجاد حلّ سياسي يحقق التغيير الوطني الديمقراطي، ومكافحة الارهاب) بالتوازي، وأن تقوم كل منها بمكاملة الأخرى. فبالملموس، فإن الحفاظ على وحدة البلاد ووقف الكارثة الإنسانية يتطلب مكافحة جدية للإرهاب، وهذه بدورها تتطلب أولاً: وقف التدخل الخارجي، وثانياً: تأمين الحد الأدنى من الوحدة الوطنية من خلال إطلاق العملية السياسية. وهكذا فإن مهام الحل السياسي لن تتحقق إلا من خلال النظر إليها من زاوية شموليته، وتحقيقه للمصلحة الوطنية الكبرى، وليس تفصيله على مقاس مصلحة هذا الطرف أو ذاك.
إن افتعال التناقضات الثانوية، من كل الأشكال، لن يصب إلا في مصلحة أمريكا، التي تعد العراب الأكبر في إشعال هذا النوع من التناقضات، والتي جاءت إلى منطقتنا في العقدين الأخيرين حاملة مشروع تفتيت المنطقة على كل الأسس الثانوية، السياسي والديني والطائفي والقومي والعرقي. وبالتالي فإن الخوض بالصراع على أسس ثانوية من أي موقع سيصب في السياسات الأمريكية وسعيها المستمر «لإحراق سورية من الداخل».