«العسكرة» إلى المرتبة الثانية..!
يشغل بال السوريين اليوم، ويثير قلقهم، تصاعد حدة المواجهات الميدانية في مناطق متعددة من سورية، والتي يدفعون ثمنها من دمائهم. بالتزامن مع ذلك، تسعى بعض القوى، من هنا وهناك، إلى إعادة بث الروح في أوهام الانتصار، سواء «إسقاطاً» أو «حسماً».
إنّ الحقيقة التي تحاول الأطراف المتشددة المختلفة تحييدها عن الواجهة لمصلحة «حقائق الميدان»، هي ذاتها الحقيقة التي باتت اليوم تحكم الميادين المختلفة! حقيقة التقدم المتسارع، بل وحتى المتدحرج، لمسار الحل السياسي على أساس بيان جنيف 30 حزيران 2012 وعبر مؤتمر «جنيف-3».
وإلى جانب تقدم مسار الحل السياسي الذي يكفي وحده للتثبت من حقيقة تراجع وزن «المواجهة بالسلاح»، فإنّ هنالك معطيات أخرى ذات دلالات هامة بالاتجاه نفسه، بينها:
- موافقة تركيا، عبر «الائتلاف السوري» على الذهاب إلى جنيف، رغم أنّ «زعيمه» نفذ مؤخراً مهمة إيصال «الطلبية» التركية بإقامة «مناطق آمنة» إلى واشنطن، وهو أمر يتناقض جوهرياً مع الحل السياسي ما يعني أنّ الموافقة إياها هي موافقة اضطرارية، وأنّ تركيا نفسها لا تستطيع تحمل مسؤولية رفض الحل السياسي.
- وإن مجرد محاولة السعودية إجراء لقاء للمعارضة على أراضيها، وبرعايتها، «بغرض التحضير لجنيف»، وهي التي طالما اشتغلت ضد الحل السياسي بوسائلها السياسية والعسكرية والإرهابية، إنما يمثل محاولة بائسة للبحث عن دور أو تأثير ما، نتيجة تقدم الحل السياسي الذي بتقدمه يواصل دفع العمل العسكري إلى المرتبة الثانية. ورغم «التنازل» الذي قدمته السعودية بمحاولتها الانخراط في العمل السياسي للتحضير لمؤتمر جنيف، إلّا أنّها لم تتمكن من فعل ذلك، أو بالأحرى لم يُسمح لها بفعله، فقررت تأجيل الاجتماع الذي كان مزمعاً عقده على أراضيها بحضور بضعة معارضين، إلى أجل غير مسمى، بحجة «التمهل للقيام بتحضيرات أفضل»..! والحقيقة غير المعلنة هي أنّ وزن السعودية الإقليمي لم يعد يسمح لها بأية «عراضة» من هذا النوع أو من غيره، فالمسار الدولي الوحيد هو مسار جنيف الذي يدفع باتجاهه الروس والذي ينبغي عليه حل المهام الثلاث على أجندة الأزمة السورية: (وقف التدخل الخارجي، ووقف العنف، وإطلاق العملية السياسية)، وستكون السعودية وغيرها من الدول المتدخلة في سورية موضوعاً لتطبيق القرارات عليها، ولن تكون مطلقاً في موقع صياغة القرارات، كما يتمنى أو يتخيل البعض.
إنّ المسألة الأساسية اليوم باتت الذهاب نحو الحل السياسي- الذي يمثل الطريق الوحيد لإيقاف الكارثة الانسانية ولمحاربة الإرهاب- وعلى وقعها يتراجع منطق العسكرة، الأحادي المحض، إلى المرتبة الثانية، ما يعكس هزيمة سياسية لأصحابه الذين كلفوا البلاد الكارثة الإنسانية التي تعيشها اليوم.
فوق ذلك كلّه، فإنّ ما ينبغي أن يفهمه الساعون إلى «تحسين» أوضاعهم التفاوضية عبر العسكرة، أنّ «التحسين» إيّاه، إذ يجري بإراقة المزيد من الدم السوري، فإنّه سيتحول مع سير الحل السياسي وبدء العملية السياسية من ورقة بيد صاحبه، إلى بيّنة عليه، فالذين دفعوا الأمور باتجاه العسكرة بحثاً عن تغيير شكلي أو رفضاً لأي تغيير، يتقاطعون فيما بينهم في رفض حدوث التغيير الوطني الديمقراطي الجذري الشامل والعميق اقتصادياً- اجتماعياً وسياسياً، وإن أية «تحسينات» يسعون إليها ستضاف إلى سجل إعاقتهم لهذا التغيير المستحق لصالح الشعب السوري منذ سنين عديدة.