لا مفر من ملازمة الديمقراطية للوطنية
جبران الجابر جبران الجابر

لا مفر من ملازمة الديمقراطية للوطنية

دخل مصطلح الدولة الوطنية الديمقراطية باعتباره ثمرة النضال الوطني التحرري ضد الاستعمار قديمة وحديثة، وقدم نضال الشعوب حقيقه هامة تدل على الترابط بين الوطنية والديمقراطية، فعندما يحرز الشعب حقاً من حقوقه الديمقراطية يتصاعد النضال الوطني التحرري الذي يفرض بدوره أهمية الديمقراطية ويدفع بها إلى مجالات أرحب وأعمق.

إنّ هذا الترابط يجد دلالاته في نضال الشعوب قبل استقلالها ودحرها للاستعمار الكولونيالي وبعده، وقد اضطر الاستعمار الفرنسي لسورية للرضوخ لمطلب انتخابات الجمعية التأسيسية السورية بعد الثورات المتلاحقة، وجرى ذلك عام 1928م وعندما وجد المستعمرون أن الجمعية التأسيسية وضعت مادة تعلن أن سورية دولة لا تعترف بالانتداب الفرنسي، عندها قام بونسو المفوض السامي الفرنسي بحل الجمعية التأسيسية واشتد القمع ومحاربة كل نشاط ديمقراطي، وفي عام 1932 قامت مظاهرات دفعت البرلمان إلى عدم التصديق على مشروع معاهدة قدمته الإدارة الاستعمارية، وفي عام 1936م أجبر الإضراب الخمسيني الإمبرياليين الفرنسين على إعادة الحياة الدستورية وفرضت على المستعمرين بنود معاهدة عام 1936م وكانوا قد رفضوها.


دكتاتوريات الخمسينات جورٌ على الوطنية والديمقراطية

بعد الاستقلال تكالبت القوى الاستعمارية للحيلولة دون السير في بناء دولة وطنية ديمقراطية، ووجدت قوى داخلية على أن مصالحا تنسجم مع الحيلولة دون تعميق المسار الوطني الذي يفرضه الاستقلال، ووجدت في المشاريع الاستعمارية اللاوطنية مخرجاً لعداء الديمقراطية وتأمين مصالح الاقطاعيين والكمبرادور وقطع الطريق على بناء دولة وطنية ديمقراطية، آنذاك طرحت الوحدة مع النظام الملكي في العراق، وقد حال النضال الوطني الديمقراطي دون دخول سورية في المشاريع الاستعمارية، مثل مشروع «قيادة الشرق الأوسط للدفاع المشترك» و«النقطة الرابعة» وغيرهما.


فسخ الديمقراطية عن الوطنية؟

كانت الكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني نتاج عوامل متنوعة، ولا يمكن الاكتفاء بما فعلته الصهيونية العالمية والاستعمار الكولونيالي الانكليزي، إن تاريخ النكبة يبين أن الشعوب العربية كانت مقموعة من الأنظمة العربية آنذاك، أما الشعب الفلسطيني فكان ضحية ضغط الحكومات كلما هب بثورة من ثوراته.
إلا أن المثال البارز على ما تنتهي إليه الوطنية عند فسح الديمقراطية عنها فإننا نجد أن نكسة عام 1967 مثالاً ما يزال في أدمغة أجيال متعاقبة، وقبل ذلك كانت نهاية الوحدة المصرية السورية عام 1961  ثم كانت اتفاقية كامب ديفيد وفق رئاسة السادات لمصر، والذي بدوره مارس القمع ضد القوى الوطنية كافة وضد جماهير الشعب بعماله وفلاحيه. كان سقوط الوحدة حدثاً مدوياً بدل على السقوط القاسي في امتحان الديمقراطية بكل قيادتها الاقتصادية والسياسية والثقافية.
هذه الأمثلة تقاطع عند نقطة واحدة وهي أن فسح الديمقراطية عن الوطنية، أدى في محطة السادات إلى التضحية بالقضية القومية والوطنية وتطلب ذلك ممارسة الديكتاتورية واتخاذها منهجاً لتأدية السلطة وقهر إرادة الشعب المصري، وفبركة الانتخابات المزورة والقضاء على جو حر، ومكتسبات وطنية تقدمية نتيجة الإصلاح الزراعي والتأميم إن تاريخ العراق القريب يشير إلى مواجع وطنية انتهت إليها دكتاتورية صدام حسين وقد غذى شتلات الطائفية والعشائرية للحفاظ على سلطته وافتعل المعارك الداخلية مع القوى الوطنية والديمقراطية لأنها وعت مخاطر الديكتاتورية، ووجد المستعمرون الأمريكيون أن ما ألحقته الديكتاتورية من خراب اجتماعي يوفر مناخ التدخل والحرب على الشعب العراقي ووجدت أن الوضع العراقي ناضج لتكريس وتعميق الطائفية واقتسام الدولة على أساسها.
والآن الدول العربية التي دخلت ضمن منظومة الدول الوطنية تعاني من الحروب الداخلية، ويتزايد التدخل الأجنبي، وتسعى الدول الإمبريالية إلى اعتماد تقسيم الدولة بين الطوائف، ولم يعد سراً أن المشترك بين تلك الدول هو فصل الديمقراطية عن الوطنية.
كانت العلاقة بين الوطنية والديمقراطية من أهم المسائل الفكرية والسياسية، فالحريات السياسية كما رأها البعض غريبة عن العرب، وهي بدعة الاحتكارات الدولية، كما أنها أدائها للسيطرة على الدول حيث يصل الإقطاعيون والرجعيون والطائفيون والكمبرادور وكبار الرأسمالين المرتبطين بالدول الاستعمارية يصلون إلى الحكم، ويدمرون القضايا الوطنية ويساومون عليها، وهناك من أضاف أبشع الصفات والخصائص ولصقها بجماهير الشعب تحت حجة تخلف المستوى الفكري والثقافي، وأضف إلى ذلك الإرهاب، الذي هو ظاهرة يتسع نطاقها بمقدار ما يجري تجاوز للحقوق السياسية.
من المعروف أن اليونان هو موطن التجربة الديمقراطية وقبله كانت المرحلة الأولى من تاريخ البشرية التي تقدم تنوع الأمثلة على مزاولة ما يسمى اليوم بالحقوق السياسية، فكان انتخاب المسؤولين بمن فيهم القائد العسكري، وكان حق سحب الثقة من أي مسؤول انتخبته العشيرة، وكانت حرية طرح الآراء والأفكار.


بين الشكل والمضمون


إن المشكلة الجائرة فكرياً وثقافياً تكمن في الخلط بين مضمون الظاهرة وشكل تجليها، وقد توصلت الرأسمالية إلى صياغة الشكل «الديمقراطي» لتأدية السلطة، وفرض هذا الشكل التطور الرأسمالي الصناعي، ونضال العمال والفلاحين الفقراء والمثقفين، وكان هذا الشكل يخدم تطور الرأسمالية وأصبح يعاني الكثير من المضمون الذي أضحى يمثل مصالح الاحتكارات الكبرى، أي أن التناقض يتزايد بين مضمون العامل القادر على أخذ السلطة لتحديد مضمون جديد للشكل الديمقراطي ما دام الأمر على ذلك النحو، فإن أفضل شكل لممارسة السلطة هو الشكل الديمقراطي ومعروف ما فعله الفاشيون والنازيون بالحقوق السياسية للطبقات المستغلة، وبعباره أخرى فإن أكثر الاحتكارات رجعية لا قياسيها الشكل الديمقراطي لتأدية السلطة.
إن الوطنية الديمقراطية لا يجمعها جامع مع الديمقراطية الرأسمال المالي ونحن في هذه الحالة أمام ديمقراطية تقود إلى حشد جماهير الشعب للدفاع عن الوطن، وترفع من وعيها السياسي والثقافي، ناهيك عن أنها تعمق المسؤولية إزاء مشاكل الوطن كافة، بما فيها المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وترسي علاقة صحيحة وضرورية وهي أن المسؤول يشغل مكانه من أجل مصالح الشعب. إن الديمقراطية في مكوناتها التي تعبر عنها العلاقات السياسية تلعب دورها في التوصل إلى أفضل صيغ الدفاع عن الوطن، وأفضل صيغ التنمية الاقتصادية والصحية والمعرفية، لقد أصبح ذلك من ناقلة القول، مع ما توفر تجارب فسحت الديمقراطية عن الوطنية فانتهت الأمور إلى التردي الاقتصادي والسياسي، وتنامي دور حالات الفساد وترعرع التعصب الطائفي الذي انحدر بدوره إلى تغذية وترسيخ العلاقات العشائرية، نحن في زمن يشير أن أي لون من ألوان الطائفية لا يمكنه أن يبني دولة وطنية ديمقراطية، بل يؤسس لمزيد من الصراعات وأشكال متعددة من الإرهاب، ناهيك عن اقتسام الدولة. في سورية مثال معروف وهو أن الديمقراطية تكون مناخ إضعاف للأحزاب الرجعية، جرى ذلك من أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، كما أن الحياة تدل أن الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ لا يمكن لها أن تطال النشاط الطائفي بحلة دينية، وهي تطال القوى الوطنية الديمقراطية وتتعقبها في كل شاردة وواردة، وبعبارة أخرى حيث يكون عدم ممارسة الشعب لحقوقه السياسية يكون العفن الاجتماعي الذي يعرض الوطن لحروب أهلية. أما أن ممثلي الاحتكارات الكبرى يريدون «الديمقراطية» للدول النامية، فهو رأي يجافي الحقائق. والأمثلة وافرة في مختلف القارات، فبعد ابتكار مصطلح «نظام عالمي جديد» في القرن الماضي كانت الديكتاتوريات في تشيلي وتركيا وباكستان ومصر وغيرها، كانت كلها مدعومة من الإدارة الأمريكية، ثم كانت العولمة دعوة صريحة لتصفية الدولة الوطنية الديمقراطية، ومازال رجالات السياسة والاقتصاد الممثلين لمصالح الاحتكارات الكبرى يرون أن الدولة الوطنية الديمقراطية من مخلفات الاتحاد السوفيتي.
إن السياسات الاستعمارية الراهنة تتمركز على ادامة الحروب الداخلية وجعلها طريقاً للوصول إلى حالة التفتيت الاجتماعي والجغرافي والاستعانة بأحزاب «الإسلام السياسي» وعقد تحالفات معها وكل ذلك للحيلولة دون بناء الدولة الوطنية الديمقراطية.