ضرورات الحل السياسي
يتكثف في هذه الأيام، على المستويات المحلية والإقليمية والدولية المختلفة، الحراك الدبلوماسي المتعلق بإيجاد حل سياسي للأزمة السورية. ويبرز الجهد الروسي في هذا الحراك، الذي بدأت بعض تفاصيل عناوينه وتحضيراته بالظهور إلى العلن مؤخراً، يبرز قابضاً على زمام المبادرة بالتدريج، مما يعكس التغيير التراكمي البطيء الجاري في ميزان القوى الدولي في السنوات الأخيرة. ومما لا شك فيه أنّ التحضيرات استغرقت فترة طويلة، وشملت أطرافاً متعددة دولية وإقليمية، قبل أن يجري تداولها. ويمكن استنتاج ذلك من طريقة العمل الروسية الهادئة ولكن الدؤوبة باتجاه واحد طوال عمر الأزمة هو اتجاه الحل السياسي، وكذلك من جملة المؤشرات وردود الأفعال التي تؤكد جدّية تلك التحضيرات، ما يعني أننا أمام فرصة هامة لإخراج البلاد من الكارثة، فرصة لا يجوز ولا يحق لأي كان إضاعتها.
إنّ حلاً سياسياً للأزمة السورية هو حاجة وطنية سورية بالمقام الأول خلافاً لما يدعيه بعض المتشددين غير المبالين بآلام السوريين وبالمخاطر الكبرى التي تتهدد بلدهم، حيث يهمل هؤلاء أنّ استمرار سورية موحدة أرضاً وشعباً أصبح مرهوناً بوقف الكارثة الإنسانية المستمرة بأسرع وقت ممكن، وبوقف استنزاف الشعب والجيش السوريين، عبر حل سياسي يفتح الطريق أمام التغيير الجذري الشامل الوطني الديمقراطي الاقتصادي الاجتماعي والسياسي المستحق منذ سنوات والذي يكفل الحد المطلوب من الوحدة الوطنية لمواجهة الاستحقاقات الكبيرة الماثلة أمام السوريين.
ومع تعمق الأزمة السورية وانتشار مفاعيلها تحول إيجاد الحل السياسي لها إلى ضرورة إقليمية، على اعتبار أن استمرار الوضع الكارثي في سورية أثّر وسيؤثر بعمق أكبر على مختلف دول المنطقة ويجعل منها ساحة حريق واحدة، ما يجعل من إطفاء النيران التي تلتهم سورية وجوارها حاجة ملحّة لشعوب المنطقة بأكملها، بل نقطة انطلاق لا بديل عنها لتأمين الظروف الضرورية لتوحيد جهود شعوبها للتخلص من السلطان الأمريكي وللقضاء على أدواته الإرهابية التي تهددها كلها.
ومن زاوية أوسع، فإنّ حلاً سياسياً للأزمة السورية تحول منذ وقت طويل إلى حاجةٍ دولية، لأن لجم العدوانية الأمريكية المتوحشة والمتنقلة على مجمل الخارطة العالمية وإخضاعها للتوازن الدولي الجديد أصبح ضرورة لمختلف دول العالم وشعوبه في وجه الجنون الأمريكي سواء عبر نشاطه المباشر أو عبر أدواته وتجلياته المختلفة والتي باتت تهدد مستقبل البشرية بأسرها. وعليه فإن الحل السياسي في سورية سيشكل نقطة إضافية في مصلحة قوى التهدئة، الأمر الذي سيسرع بتثبيت ميزان القوى الدولي الجديد، ويقلل بالتالي من التكلفة التي تدفعها البشرية في انتقالها إلى مستقبل مختلف في مقابل محاولات واشنطن التشبث بالماضي وبتوازناته.
إنّ المؤشرات المختلفة الدالة على جدية التحضيرات الجارية كثيرة ومتنوعة، ولعل أهمها الصمت التركي خلال الأسبوعين الماضيين، إضافة إلى زيارة سعود الفيصل إلى موسكو قبيل الزيارة المعلنة لوزير الخارجية السوري إليها أيضاً. ولا ينتقص من هذه الجدية محاولات المتشددين في الداخل والخارج الالتفاف على مسألة الحل السياسي عبر سلسلة معقدة من التحليلات والمواقف المرتبكة التي انتهت جميعها إلى الإقرار مجدداً بضرورة ذلك الحل وبقبولهم الضمني به، بغض النظر عن غاياتهم وأجنداتهم المختلفة تجاهه. إنّ هذه الظروف وهذه المؤشرات إذ تؤكد جدية الجهود لا تعني قيام الحلول مباشرة إلا من خلال الملاقاة الجدية من كل الحريصين فعلاً على سورية الأرض والشعب والدولة لهذه الجهود وإيصالها إلى أهدافها المرجوة في حقن دماء السوريين وحفظ سيادتهم ووحدتهم وإيجاد حل جذري لمشاكلهم المختلفة. وإن من شأن هذه الملاقاة الجادة الدفع أيضاً باتجاه تثبيت ميل دولي وإقليمي وداخلي عام نحو المضي العملي بالحل السياسي الشامل، ومن شأنها أن تزيد من تراص صفوف الوطنيين في المواقع المختلفة لتأدية مهمة نقل إحداثيات الصراع الرئيسية في سورية من الشكل العسكري المحض إلى الشكل السياسي الذي يتيح للسوريين تقرير مصيرهم انطلاقاً من مصالحهم الوطنية العميقة.