«المالتوسية الجديدة» في الشرق العظيم
بدأت شعوب المنطقة العربية تعاني من أبشع تجليات التطبيق الأمريكي لسلسلة من النظريات والمقولات التي لطالما روجت لها واشنطن، بمنظريها ومراكز أبحاثها وسياسييها، وعملت على تطبيقها بهذا الشكل أو ذاك، ولكن في أماكن أخرى من العالم، تحديداً منذ تسعينييات القرن الماضي، ضمن سيناريوهات ضمان وهم التفوق الأمريكي ما بعد تفتيت الاتحاد السوفييتي، وما كان يعرف بالكتلة الشرقية، وقبلهما حلف وارسو.
من أبرز السياسات التي اتبعت آنذاك ما أسمي في حينه، في الأدبيات البحثية والسياسية، بما فيها الشيوعية السورية، بـ«المالتوسية الجديدة»، نسبة إلى توماس روبرت مالتوس، القديس والباحث البريطاني في الاقتصاد السياسي والسكان، والذي كان يروج أن العناية الإلهية تتولى عبر الحروب والأوبئة والمجاعات حل مسألة عدم التناسب بين المستوى المرتفع والسريع للنمو السكاني مقابل المستوى المنخفض والبطيء لتراكم ثروات الأرض.
وسبق ذلك التحليلات والاستهدافات التي أعلن عنها «نادي روما» في عام 1975، «علينا الحفاظ على تعداد بشري بحدود 3 مليار إنسان في عام 2020 علماً أن المتوقع أن يصل العدد إلى 8 مليار»، أي بكلام آخر لم يقولوه ولكن بدأ تنفيذه: «علينا أن نقتل 5 مليار إنسان.. في وقت يتركز فيه في منطقة الشرق العظيم حوالي ملياري إنسان، هم على رأس قائمة الاستهداف»..!
واشنطن «بدل الرب»
وكان هذا يعني بالتطبيق بالنسبة لواشنطن بأجهزة استخباراتها وعملياتها التخريبية أو بمؤسستها العسكرية وساستها أن يتحولوا إلى أخذ دور تلك العناية الإلهية بأنفسهم..! أي تسعير الصراعات الداخلية والأهلية لتكون مبرراً لتدخل عسكري مباشر عند الضرورة، واختلاق الحروب الإقليمية وحتى الأوبئة والمجاعات بهدف تقسيم البلدان وتفتيتها لإضعافها بهدف تسهيل السيطرة عليها، وإحداث تخفيض قسري في عدد السكان بهدف الحفاظ على نمط توزيع الثروة الجائر في العالم، ناهيك عن ترويج مصطلحات اقتصاد السوق والعولمة ونهاية التاريخ بهدف تعميم الليبرالية الجديدة في الاقتصاد عبر وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، بهدف نهائي يتمثل في تخفيض وسطي العمر المطلق للبشر، ولاسيما في دول الأطراف المستهدفة.
«قوس التوتر»
وكان من بين النظريات الأمريكية المشهورة التي ماتزال تفعل فعلها في محاولة استمرار بسط الهيمنة الأمريكية وتحييد الخصوم والحلفاء على حد سواء هي نظرية «قوس التوتر» لواضعها زبينغيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي السابق لدى إدارة جيمي كارتر، والقائلة بما مفاده أن جميع الدول في القوس الجغرافي الممتد من أفغانستان شرقاً حتى يوغسلافيا غرباً مروراً بدول آسيا الوسطى شمالاً وحتى مضيق باب المندب جنوباً هي دول تتسم بأنها متعددة الأعراق والأديان والطوائف وينبغي تحويلها إلى دول أحادية الأعراق والأديان والطوائف..!
«داعش» وطيف المستفيدين
اليوم، ومع ظهور قوى الفاشية الجديدة في منطقتنا العربية ممثلة بتنظيم داعش ومشتقاته، أو نظيراتها في أوكرانيا من قوى اليمين القومي المتطرف، بوصفها الأدوات التنفيذية بيد الأوساط الأكثر رجعية داخل رأس المال المالي الإجرامي العالمي، يتبدى التطبيق الأكثر بشاعة ودموية وعنصرية لتلك المقولات والنظريات الأمريكية المفضية للنتيجة التصفوية ذاتها، حتى وإن لم يشأ الباحث أو المراقب أو المواطن المستهدف بحياته أن يعتد كثيراً بما يجري تسريبه وتداوله من مصادر متعددة (سنودن/ كلينتون) من أن داعش وأميرها البغدادي هما صنيعة المؤسسة الأمريكية ووكالة استخباراتها المركزية CIA. ولكن يكفي النظر للنتائج ليعرف المرء من المستفيد، وضمن أي سياق تاريخي في إطار الصراع العالمي على الثروة والسلطة، أي الهيمنة والبقاء، ولاسيما أن هذا الطور من الإجرام الرأسمالي العالمي لا يجري في ثمانينيات أو تسعينييات القرن الماضي مع وصول القوة الأمريكية إلى ذروتها شكلياً على الأقل مع انهيار خصمها الأكبر بإطاره الجغرافي السياسي في حينه، دون أن ينهار قطب الشعوب المستهدفة، وإنما يجري اليوم مع اشتداد الأزمة الرأسمالية العالمية ووصولها إلى نهاياتها تاريخياً وجغرافياً، بمعنى وصول القدرة على الانتشار السوقي والعسكري الامبريالي الأمريكي تحديداً إلى سقوفها.
ولم يعد جديداً القول اليوم إن أحد أسباب النشر السريع لـ«فوبيا داعش»، بممارساتها الفعلية الأسوأ من سلوكيات القرون الجاهلية والحجرية، في كل من سورية والعراق ولبنان وحتى الأردن والكويت، وبعد فشل المشروع الإخواني بشقيه «المعتدل» سياسياً و«القاعدي» إرهابياً، يتمثل في محاولة التمرير المتحكم به لشعار «يهودية الدولة» في الكيان الصهيوني، انسجاماً مع نظرية «صراع الحضارات» لصمويل هنتنغتون.
الليبرالية الاقتصادية
وجه آخر للمالتوسية
حسناً، كل ذلك يمكن إدراجه في سياق نظرية الاستهداف الخارجي والمؤامرة المبيتة الهادفة بشقها المالتوسي الجديد إلى تسعير النزاعات المحلية والعابرة للحدود والمتسببة بإحداث تخفيض قسري لعدد سكان المناطق والبلدان والتشكيلات الاجتماعية المستهدفة، ولكن ماذا عن دور وتأثير الخيارات السياسية والميدانية لأطراف تلك النزاعات، وإصرارها على إقصاء الحلول السياسية الجدية فيما بينها، وبين النظم وشعوبها، والكفيلة بمواجهة المؤامرة وأدواتها التكفيرية المالتوسية؟ وما هي طبيعة وسبل الحلول المطلوبة كيلا تبقى شعوب المنطقة وقوداً لتلك المؤامرة ينتظر مصيره المحتوم على يد مجرمين ووحوش بشرية تبدو وكأن لا راد لها؟ وأليست السياسات الليبرالية والإيغال بها تحت ذرائع واهية جديدة وجهاً آخر للمالتوسية الجديدة؟
كانت الولايات المتحدة ولاتزال تتعامل مع منطقتنا بوصفها رقعة حرب واحدة، ولا راد لذلك سوى الرد بالمثل، ليس عبر الشعارات والخطابات، بل بتأطير وتوحيد جهود جميع المتضررين في شعوب الشرق العظيم، سياسياً وقومياً واقتصادياً- اجتماعياً بالبعد التقدمي، بوجه جميع الأدوات والمخططين والمستفيدين، المباشرين وغير المباشرين، الظاهرين والمخفيين.