الحل السياسي: «إصلاحي» أم «جذري»؟

الحل السياسي: «إصلاحي» أم «جذري»؟

مضى ذلك الزمن من عمر الأزمة السورية الذي كان النضال الفكري الأساسي فيه هو لتثبيت فكرة الحل السياسي في مقابل طروحات «الحسم» و«الإسقاط». فقد أقرت الأطراف الأساسية المختلفة، داخلية وخارجية، بضرورة ذلك الحل مراراً وتكراراً، ولكنّ قسماً من «المقرّين» بالحل السياسي، شرعوا بمحاربته عبر تغيير مفهومه وتفصيله على مقاساتهم، لتظهر ثلاث مقاربات أساسية لهذا الحل:

أولاً، المقاربة الأمريكية، التي قبلت بالحل السياسي لفظاً ومارست عملياً كل ما يمنع تحقيقه، سواء بطريقة تعاطيها مع «جنيف» أو عبر تصنيعها وتبنيها لمعارضة من شاكلة محددة تلبي أهدافها التفتيتية. ولا يمكن بحال من الأحوال الركون للمقاربة الأمريكية التي تسعى في نهاية المطاف إلى تقسيم سورية بشكل سياسي- طائفي واضح، أو عبر صفقات محددة بين رؤوس الأموال والفاسدين في طرفي الصراع بحيث تبقى سورية مرتبطة اقتصادياً بالغرب، بما يعنيه من محاولات ربطها سياسياً، بالتالي..

ثانياً، المقاربة الإصلاحية/ التجميلية، التي يقدمها النظام حتى اللحظة، والقائمة على ترقيع هنا وترقيع هناك، دون أي تغيير جديٍ باتجاه المصلحة العميقة للشعب السوري. فالاقتصاد إلى مزيد من «التشاركية»، بما يعنيه بالتجربة السورية، من سيادة القطاع الخاص الريعي غير المنتج، وتكريس التعامل التفضيلي معه على حساب «العام»، وإنهاء دور جهاز الدولة الاقتصادي والاجتماعي، مقابل تكريس الدور القمعي لذاك الجهاز ليحافظ على مستوى حريات سياسية مضبوطاً وفق «ميزان المعركة» المستمرة على الأرض والتي تضع «الحسم» هدفاً لها. وبين وقت وآخر يظهر «انفراج» جزئي هنا أو هناك، لكي تحمّل عليه مجدداً مقولة «خلصت»..

ثالثاً، المقاربة الجذرية، القائلة بأنّ الحل السياسي لا يمكنه أن يكون حلاً حقيقياً، دون أن يكون جذرياً، بمعنى الوصول إلى جذور المشكلات التي أنتجت الأزمة والتعامل معها. فخروج حقيقي من الأزمة يتطلب الوصول إلى جهاز دولة يقوم بوظائفه الاقتصادية والاجتماعية بما يخدم عموم السوريين، فيوجه قمعه تجاه الفاسدين وتجار الحرب، ويوحد بالتالي الشعب السوري في محاربة الإرهاب وكل المتدخلين الخارجيين. 

إنّ فتح أفق التغيير الحقيقي أمام الناس وكسب ثقتهم هو الطريق الوحيد الذي يسمح برأب صدوع الوحدة الوطنية، وهو الطريق الوحيد نحو خروج متكامل وناجز من الأزمة.

إنّ النظر مثلا إلى الهدن والتسويات التي جرت حتى الآن، والتي يقدمها الإعلام السوري تحت مسمى مصالحات، وهي لم تصل إلى هذا المستوى حقيقةً، يظهر بوضوح الفرق بين الجزئي والشامل، بين الترقيعي/ الإصلاحي والجذري، فهذه الهدن والتسويات نفسها التي قدمت إشارات إيجابية في حينها حتى الآن، مهدَدَة في حال استمرارها ضمن هذه الحدود الضيقة بالانقلاب إلى بؤر متوترة مرة أخرى مع فارق كبير هو فقدان الثقة المضاعف بعد التجربة. فالهدن والتسويات هي جزء من منطق المعركة، ولكن المصالحة جزء من منطق الحل السياسي الشامل، ولا يمكن بالتالي الوصول إلى مصالحة ضمن منطق الحرب أو ضمن منطق «الحسم» و«الإسقاط».

إنّ المراوحة ضمن عقلية الحلول الترقيعية الجزئية التي لا تضرب أو حتى لا تمس مصالح الفاسدين الكبار، بل تعزز مواقعهم، لا تؤخر حل الأزمة فحسب، بل تزيدها تعقيداً، وتكلف السوريين وسورية غالياً جداً. ولذا فإنّ الخروج من الأزمة ملازم لتغيير جذري في عقلية وأداء وبنية جهاز الدولة ليقترب من الناس ويتحول إلى أداة قمع بيدهم ضد الفاسدين والأعداء الخارجيين، لا أداة قمع ضدهم. ومن يريد أن يوقف نزيف سورية المستمر، عليه أن يضع هذه الحقيقة نصب عينيه، وإلا فإن الأزمة لن «تخلص» أبداً.