«من يجرّب المُجرّب».. أم أبعد؟!

«من يجرّب المُجرّب».. أم أبعد؟!

تسود في الأوساط السياسية والإعلامية السورية، الرسمية وشبه الرسمية، ترويجات مفادها «أنه بعد تعاظم كرة اللهب الداعشية في العراق والمنطقة ستضطر واشنطن لأن تهرع وتدق الأبواب السورية طالبة النجدة والتحالف في وجه الآتين مما وراء التاريخ وجرائمهم الإرهابية البشعة، ولاسيما مع تحسن الوضع الأمني والميداني السوري واستقراره النسبي بفضل تضحيات وصمود الجيش والشعب السوريين، ووضوح خيارات السوريين سياسياً بنتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبدليل تصريحات أوباما أنه ليس بمقدور المعارضة إسقاط النظام». 

وبالتوازي تماماً مع هذه القراءة السياسية المغلوطة، على أبسط توصيف، استيقظت لدى الحكومة السورية ماكينات قوة عطالة مقارباتها الاقتصادية السابقة، القائمة أصلاً على التشابك والتربيط مع الغرب ورساميله واستثماراته المباشرة أو من الباطن، والتي كانت أحد أهم الأسباب الممهدة لانفجار الأزمة، ولكن التي كان يجري ولايزال القفز فوقها. وهكذا، وعلى الرغم من وجود نفي سابق من وزراء ومسؤولين، خرج الاجتماع الأخير للحكومة في الأسبوع الماضي، بإقرار ما سمي «قانون التشاركية بين القطاعين العام والخاص» وبفتح هذه الشراكة على كل المرافق والقطاعات الحيوية والأساسية في الاقتصاد السوري، وبالطلب من الجهات المعنية تشكيل اللجان المطلوبة لتحضير البنية القانونية اللازمة.. الخ، حسبما جاء في الخبر الذي أوردته وكالة سانا، دون أن تصل «الشفافية» الحكومية بعد إلى مستوى عرض مشروع القانون ذاته على الملأ..! 

ويبدو واضحاً لكل متابع أن هذا الإجراء يعد شكلاً آخر من الخصخصة، و«تجريب المجرب»، تحت عناوين براقة جديدة تضاف إلى سلسلة إخفاقات الحكومات السورية المتعاقبة في اعتماد اقتصاد السوق الحر، تحت مسميات متعددة، منها «قانون الاستثمار» و«الإدارة بالأهداف» و«اقتصاد السوق الاجتماعي»، والتي كانت كارثية النتائج، وحاملة لروافع أساسية من مقومات الأزمة وأسبابها داخلياً، وهو يأتي تتويجاً لسلسة تسريبات ومحاولات سعت مؤخراً، حتى خلال الأزمة، لكي تحقق في الحرب ما لم تستطع تحقيقه في السلم سابقاً، ولاسيما الحديث عن خصخصة مباشرة وغير مباشرة لقطاعات الاتصالات والكهرباء والنفط والموانئ، وكل القطاعات السيادية، ويضاف إليها اليوم بند إعادة الإعمار، الذي يراد تحويله فيما يبدو إلى مصدر تسول جديد على حساب السيادة الاقتصادية للدولة، بل وموظف سياسياً بصيغة التحاصص، خاصة إذا ما وضعنا في حسباننا ما يجري ترويجه في بعض الإعلام اللبناني القريب من النظام عن وعود وضرورات لرساميل ذات لون طائفي محدد في مسألة إعادة الإعمار.

فساد.. «ممنوع الاقتراب»!

وهذا يعني برمته أنه على الرغم من وضوح الضرورات الوطنية المتكاملة سابقاً وحالياً، ولاسيما وسط الكارثة الإنسانية القائمة، فإن الحكومة ورغم ما يشاع عن أنها قاب قوسين او أدنى من التغير باتجاه تشكيلة جديدة، تريد التمهيد كالعادة لتغيير في الوجوه وليس بالسياسات، لا بل تستعجل فرض أمر واقع ضمن آجال زمنية تبدو محددة وقصيرة بحيث يستبق في فرض وقائع قائمة أمام أي حكومة لاحقة، مطلوب منها بحكم برنامجها وصلاحياتها المفترضة، وبغض النظر عن تركيبتها، أن تتولى إخراج البلاد من أزمتها، لا لتعقيدها وإعادة تكبيلها بالغرب المعادي ورساميله ورساميل المرتبطين به وبأدواته الإقليمية تاريخياً، مصرفياً واستثمارياً.

وهو يعني أن الحكومة الحالية تتعمد مجدداً عدم التوجه إلى المطارح الحقيقية لرفد خزينة الدولة بالأموال الكافية للنهوض الاقتصادي والتنمية المجتمعية وإعادة الإعمار المتمثلة في أموال النهب والفساد الكبير، بل تريد تضخيم هذه الأموال نيابة عن أصحابها مرة أخرى، من خلال السماح لهم بالاستثمار مجدداً تحت اسم التشاركية، ولكن ضمن بيئة سورية شبه مدمرة كلياً تفتح شهية الرساميل من كل حدب وصوب، مع نتيجة معروفة أنها ستكون على حساب المواطن واستقلال القرار الاقتصادي، بغض النظر عن طبيعة المواقف السياسية المطلوب تثبيتها لسورية، واحتياجات استعادة دورها إقليمياً.

ماذا عن أثرياء الأزمة.. والدستور..؟

الطامة الكبرى تحليلياً أن هذا المنطق من التشاركية التسولية، على حساب استقلال القرار الاقتصادي للدولة السورية وضرورة عدم إخضاعه لتقلبات السوق وتبعاتها الاجتماعية والسياسية، وبما يتضمنه من تحاصص اقتصادي، وبالتوازي مع السكوت والتغاضي الرسمي مثلاً عن خطورة ما روجه الإعلامي سامي كليب مؤخراً عبر استخدامه لمسميات طائفية سافرة، وليس عن طبيعة وطنية، لرأس المال المطلوب في إعادة الإعمار، وفي أجواء يجري الحديث فيها عن حلول سياسية، لن يكتفي بغض الطرف عن الفاسدين الكبار التقليديين، بل لن يتورع نظرياً عن قبول التوظيفات الاستثمارية من الأثرياء الجدد خلال الأزمة، أي أمراء الحرب، سواء في الداخل أم من بعض معارضي الخارج، ممن راكموا ثروات حقيقية بالقطع الأجنبي، مقابل عمالتهم واستقوائهم بالأجنبي والخارج. ولم لا؟ فمن يتعمد عدم تطبيق «من أين لك هذا؟» بالداخل، ويستقبل الدردري، ويرسل مرة وفداً حكومياً لاجتماع في «الأسكوا» خاصته، وتارة وفداً من رجال الأعمال لعقد مؤتمر معه ومعها، ولا يرد على الترويج الإعلامي لضرورة اعتماد النموذج اللبناني في الاستثمار، أي في تحاصص أمراء الحرب هناك، قديمهم وجديدهم، للدولة والاقتصاد وإفقار الناس، لن يهمه التدقيق في مصادر التمويل الاستثماري، ومن يمثل..!

المفارقة أن الأزمة السورية بكل تجلياتها وأثمانها الكارثية لا تزال قائمة ومتفاقمة، ولكن بالشق الاقتصادي، وبالتوازي مع العرقلة الجارية عمداً داخل جهاز الدولة وخارجه لتنفيذ شعار ضرورة التوجه شرقاً بهدف إقامة علاقات اقتصادية نفعية متبادلة وندية مع «أصدقاء سورية الحقيقيين»، فإن خطوات حكومية من شاكلة إقرار مشروع قانون التشاركية، ودفعه لمجلس الشعب للإقرار، لا تمهد لقيام مخرج وطني متكامل من الأزمة السورية، بل تعيق ذلك عملياً، من خلال إبقائها على الاقتصاد السوري ذيلياً وتابعاً، لا يحقق درجات النمو العالية المطلوبة لضمان أعمق عدالة اجتماعية، أي أنها بهذا المعنى مخالفة لبنود وروح الدستور الجديد القائل بضرورة ضمان درجة عالية من تلك العدالة، على أساس سيادة القطاع العام وثباته.