أفكار حول الفاشية المعاصرة
تحتل ظاهرة الفاشية المعاصرة موقعاً مركزياً على الخارطة الدولية المشتعلة، فلا يستقيم تحليل سياسي أو اقتصادي– وحتى ثقافي– معاصر، دولياً كان أم إقليمياً أم محلياً، ما لم يعالج هذه الظاهرة جدياً ويتملّى منها معرفياً. يبرز في هذا السياق، سواء ضمن اجتهادات المفسرين الصادقة، أم ضمن التفسيرات المغرضة المقصودة، قدر كبير من التسطيح ومن الأخطاء تفرغ الظاهرة من محتواها، وتفقدنا تالياً أدوات التصدي لها..
أول الأخطاء هو استخدام كلمتي «الإرهاب» و«الفاشية» بوصفهما مترادفتين. إنّ التقتيل الوحشي والتقطيع والتفجير والتدمير وما إلى هنالك من أفعالٍ إرهابية تهدف- كما يدل اسمها تماماً- إلى ترهيب الناس وتخويفهم وصولاً إلى توجيه سلوكهم بالاتجاه المطلوب. والإرهاب بمفاعيله الحالية وانتشاره الحالي مرتبط أشد الارتباط بتطور الإعلام المرئي والفضائيات، فليس من معنىً لعملية قطع الرأس ما لم تبثها وسائل الإعلام وتعيد بثها والحديث عنها مرات ومرات، حتى ليشعر المتلقي بأنه مستهدف بشخصه وبشخوص أحبائه والمقربين إليه، وليثار فزعه وخوفه ويتحول إلى متلق سلبي خانع أمام تحليل وفهم أولئك الذين يبثون تلك المقاطع ثم يقدمون أنفسهم حماةً له من «قطع رأسه». ومع أنّ أعداد أولئك الذين يموتون بحوادث السير مثلاً أكبر بما لا يقاس ممن يموتون بأفعال إرهابية، فليس لدى الناس رهاب المشي بالطرقات! ولو أراد الإعلام تكريس الخوف من حوادث السير ببث صورها وفيديوهاتها الشنيعة ومخاطرها مراراً وتكراراً، لأوصل قسماً كبيراً من الناس إلى التزام بيوتهم، ولوّلد عندهم رهاب المشي في الطرقات..
بالمحصلة فإنّ الإرهاب كظاهرة سياسية- إعلامية- نفسية لم يكن موجوداً بتطوره الحالي أيام فاشية القرن العشرين، ومع ذلك فقد كانت الفاشية موجودة.. بكلام آخر فإن الإرهاب يسعى إلى توجيه سلوك الناس باتجاه ما ولخدمة مشروع ما، ولكنّه ليس فاشياً بالضرورة، فالفاشية هي ذلك المشروع الذي قادته بنسخته الأولى الفئات الأكثر رجعيةً من سادة رأس المال المالي، وتقوده اليوم بنسخته المعاصرة قوى رأس المال المالي الإجرامي العالمي، وهذا الأخير ليس توصيفاً إنشائياً ولكنه منظومة لها استقلاليتها النسبية ضمن المنظومة الرأسمالية، ولها قنواتها الخاصة، وتجارتها الخاصة المتركزة أساساً على تجارة السلاح والمخدرات والرقيق الأبيض وما شابه ذلك..
إنّ التفريق بين الإرهاب والإرهاب الفاشي ضروري لكونه يقدم مدخلاً جيداً لفهم جملة من الصراعات الثنائية بين الإرهابيين أنفسهم.
فاشية القرن العشرين والفاشية المعاصرة
الخطأ الثاني الذي يقع فيه كثيرون في تناولهم للفاشية، هو مطابقتهم بين فاشية القرن العشرين التي تمركزت أساساً في أوروبا وحملها أيديولوجياً التعصب القومي، والفاشية المعاصرة بسماتها الجديدة.. أول سمات الفاشية المعاصرة عالميتها، فإذا كانت نسختها الأولى أوروبية فهذه عالمية تتعلق بـ«ترسمل» الأرض كلها وشمولية أزمتها، وثانية السمات هي تنوع حواملها الأيديولوجية، فهنالك كانت قومية متعصبة والآن قومية ودينية وطائفية.. السمة الثالثة هي أن فاشية القرن العشرين تركزت في قلب العالم الرأسمالي وشكلت حكومات كاملة خاصة بها في دول صناعية، وهي الآن عبارة عن مجموعات وكيانات مؤقتة متناثرة ومرنة الحركة، لها دور وظيفي محدد مؤداه إطالة استنزاف المناطق المستهدفة إلى أبعد مدى ممكن في إطار الصراع العالمي والضغط على الخصوم.
هذه السمات جميعها تجعل من محاربة الفاشية المعاصرة اليوم بالشكل العسكري وحده تفعيلاً وتقوية لها، فهي تتغلل في بنية المجتمعات الهشة اقتصادياً واجتماعياً، وتستخدم هشاشة تلك المجتمعات وقوداً لاستمرارها وديمومتها، ما يجعل من تقوية المجتمعات وردم الفجوات فيها عبر سياسات وطنية واقتصادية اجتماعية وديمقراطية جادة ومنحازة للشعب انحيازاً مطلقاً، طريقاً إلزامياً ووحيداً لمجابهة فعالة مع الفاشية المعاصرة..
الغرب يخاف الفاشية؟!
الخطأ الخطير الثالث، يتمثل بمقولة: «الغرب نفسه يخاف من الظاهرة الإرهابية/ الفاشية» وبالنتيجة فإنه «سيضطر لتغيير مواقفه عاجلاً أم آجلاً ليقف إلى جانبنا، أو إلى (جانب أنظمتنا) في محاربتها». ولعل هذا الخطر هو الأكبر، فإذا كان الناس في الغرب يخافون الإرهاب والفاشية فليست الحال واحدة مع التيارات الفاشية من حكامهم، فهؤلاء يستفيدون من الفاشية مرتين، مرة في الخارج بالضغط على خصومهم وتكبيدهم خسائر كبرى، ومرة في الداخل بتكريس مقولة السلطة الغربية الحامية المدافعة عن شعبها ضد الإرهاب، ما يسمح لها بمزيد من التغول في قمع مطالب تلك الشعوب المتزايدة والمتصاعدة تحت ضغط الأزمة الرأسمالية. وفي المحصلة، فإن «مربط الخيل» الفاشي في حظائرهم يلجمونه حين يشاؤون ويطلقونه متى أرادوا، وإن هو انفلت من عقالهم فلا ضير في ذلك..! مزيد من النار لا يضير الفاشيين، بل يخدمهم في ضرب الناس وضرب قواهم المنتجة التي تضغط باطّراد على علاقات الجور الرأسمالي..!
«لمّا نصل بعد..!»
إنّ الانقسام الحاصل ضمن الزعامات الغربية نفسها، بين فاشيين وعقلانيين، هو انقسام متحرك بحركة أزمتهم المشتركة، فإذا استطاعت الفاشية تحقيق «انجازات» فعلية في الأماكن التي تعمل فيها، فإن التيارات الأخرى في البلدان الغربية ذاتها سترضخ لها راضيةً، وإن حصل العكس فإن الطريق يغدو مفتوحاً نحو شكل ما من التحالف الدولي ضدها شبيه بذاك الذي جرى أيام الحرب العالمية الثانية بين الاتحاد السوفييتي والغرب، ولمّا نصل هذا الحد بعد، ولن نصله دون أداء كل المتضررين قسطهم من محاربة الفاشية عبر لجمها بتفعيل التوافقات والتسويات فيما بينهم عبر الحلول السياسية، وتضميد جراحات الوحدة الوطنية، وترميم التشوهات التي فرضتها الأزمات الأخيرة في المنطقة على العلاقات بين شعوب المنطقة، مع نضال هذه الشعوب لإلزام أنظمتها بالتنازل لها في حقوقها المشروعة في التغيير الوطني الجذري الشامل المعادي في صميمه للغرب وللصهيونية العالمية.