الشرق العظيم من التجزئة إلى الوحدة
خالد عليوي خالد عليوي

الشرق العظيم من التجزئة إلى الوحدة

 ورد في مشروع البرنامج المقدم للمؤتمر الحادي عشر للحزب وتحت عنوان الرؤية ما يلي: «كما يفتح الحراك الشعبي الباب واسعاً أمام إعادة الاعتبار لفكرة الوحدة العربية باعتبارها وحدة لمصالح الشعوب العربية في وجه الامبريالية والصهيونية والصهيونية العالمية عموماً، وفي وجه الكيان الصهيوني خصوصاً. ويطور هذه الفكرة نحو اتحاد شعوب الشرق العظيم الممتد من قزوين إلى المتوسط باعتبار سقوط هذه المنطقة وتفتيتها هو الطريقة الوحيدة ليس لنجاة أمريكا من أزمتها فقط وإنما لاستمرار النظام الرأسمالي بأكمله ».

جدل الجذب والنبذ

يقول لينين: (إن الفارق بين الواحد والمتعدد هو فرق علاقتهما المتبادلة التي تنفك إلى علاقتين هما الجذب والنبذ). تقودنا هذه المقولة إلى استنتاج يتمثل في أن اكتشاف قوانين التطور الموضوعي مرتبط بمستوى الوعي بالقوى الجاذبة والنابذة في كل مرحلة من مرحلة التطور التاريخي، وأيضاً بمستوى الوعي لعملية تحول كل منهما إلى نقيضها، وعملية التحول هذه مضبوطة بجدل الكم والكيف وتحول كل منهما إلى الآخر من أجل كم نوعي جديد في كل لحظة كينونية من لحظات الصيرورة التاريخية.

العوامل والشروط المهيئة للوحدة 

إن وحدة شعوب الشرق العظيم مشروطة بتوافر عوامل وشروط تحقيقها، الذاتية والموضوعية، وخصوصاً شرطها اللازم والكافي، أي أن الوحدة تعبر عن غلبة عوامل الجذب، كما أن التجزئة تعبر عن غلبة عوامل النبذ، ومن بين جملة العوامل والشروط يكون هناك دائماً عامل أو شرط حاسم يكون له التأثيرية في عملية تحقيق الوحدة.. هذا العامل أو الشرط الحاسم يمكن أن يكون اقتصادياً حيناً أو سياسياً حيناً أو إيديولوجياً حيناً آخر، وبالتالي فإن الوحدة عملية تتعلق بالوعي المطابق للواقع وحاجات تغييره، ومدى المقدرة على اكتشاف حركة وصراع المتناقضات، واتجاه وعمق تأثير تلك الحركة التي تتقولب في هيئة أسباب ونتيجة، فالأسباب وفي سياق المجرى التاريخي للتطور تتحول إلى نتيجة وهذه النتيجة وفي سياق المجرى ذاته تتحول إلى سبب جديد... وهكذا.

هل التجزئة نقيض جدلي للوحدة؟

إن دراسة متأنية للديالكتيك بعيداً عن التعصب الأيديولوجي والثنائيات المضللة تحيلنا إلى حقيقة تتمثل في أن التجزئة ليست «نقيضاً جدلياً» للوحدة، لأن عملية الوحدة ضمن السياق الواقعي هي عملية تجاوز لواقعة التجزئة دون إلغاء التعدد والتنوع لأنه مستحيل موضوعياً..
إنها عملية توحيد المتعدد والمختلف والمتناقض، وهذا يتطلب مضامين جديدة تأخذ طابعاً عقلانياً وديمقراطياً وتحديثياً، وفي المحصلة فإن الوحدة مشروع تقدمي يتحدد بعناصرها المكونة وبالعلاقات التي تنظم هذه العناصر وبقوانين تغيرها وتحولها، وعلى نحو خاص يتحدد شكل ومضمون الوحدة بطابع القوى والطبقات السائدة ومدى ثوريتها إن من أخطر نتائج اعتبار التجزئة نقيضاً جدلياً للوحدة هو تحويل الوحدة إلى مفهوم مطلق يسبح في فضاء الايديولوجيا دون أن يكون له عوامل ومرتكزات واقعية، وهذا يسوغ مبدأ حكم الحزب الواحد وشخصنة السلطة والتي تتذرع بـ «النضال الوحدوي» وتنظر إلى الجماهير والأحزاب الأخرى على أنها كم سلبي لاقيمة له.
إن ثنائية (وحدة تجزئة) تعدم أي إمكانية للحركية المعبر عنها بالتجاذب والتنابذ وتحولها إلى تجريد نظري، بينما قوانين التطور والانتقال والتغير تشترط الحركية كحالة توسط ( وحدة - صراع - وحدة ) أي أن الوحدة واقع راهن والتجزئة استاتيك قائم، وأن وجود كل منهما يتجلى في حركة تغيرهما لذلك فإن الوحدة والتعدد يتوسط كل منهما الآخر بالتناوب في حركة تجاذب وتنابذ دائمة.
إن التجزئة فعل خارجي صاحبه بنية داخلية هشة عملت على تغذية الخصوصيات المحلية والبنى والعلاقات العشائرية والدينية والمذهبية والأثنية.. هذه الخصوصيات عملت على إعادة إنتاج ايديولوجيات انعزالية تماهت مع قانون الامبريالية الأساسي في منطقة الشرق العظيم، والذي يتمثل في التجزئة ومزيد من التفتيت والنهب الامبريالي المنظم لمقدرات المنطقة، وبالتالي عملية تدمير ممنهجة لبنى المنطقة السياسية والاقتصادية - الاجتماعية والثقافية ، لذلك فإن حتمية وحدة شعوب الشرق العظيم مرهونة ضمن الشروط الموضوعية المواتية بالعامل الذاتي اللازم والكافي لتحقيقها.

دور الحراك الشعبي في جعل الوحدة إمكانية واقعية

 باعتبار أن الحراك الشعبي هو إحدى أدوات التغيير السلمي الجذري والشامل للبنى المتخلفة التي أصبحت معيقة للتطور، فإن الأحزاب الثورية باعتبارها إحدى أهم قوى الحراك الشعبي تقع عليها مسؤولية كبيرة تتمثل في الإمساك باللحظة التاريخية بناء على وعي جدل التعدد والاختلاف والتناقض وعلاقات الجذب والنبذ وحركة وصراع الأضداد، وتوليف كل ذلك في نظرية علمية تمهد الطريق لتجاوز واقع التجزئة الستاتيكي والانتقال إلى الوحدة بوصفها حركية ديناميكية.. هذه النظرية العلمية تضع الأسس العامة للممارسة الوحدوية على شكل منطلقات مرتبطة بالواقع الموضوعي، حيث يتم ضبط وتوجيه هذه المنطلقات من خلال التعامل مع المجرى العام للصراع عبر بلورة سياسات مرحلية تسمح بهامش معين من التسويات والتراجعات التي قد تكون ضرورية في ظروف معينة شرط ألا يؤثر ذلك على الاستراتيجية العامة.

العوامل الجاذبة للوحدة

•وعي الأحزاب الثورية ممثلة في النخب بالأزمة النهائية للنظام الرأسمالي بوصفها أزمة بنيوية عميقة، ووعي الارتباط العضوي بين الأزمة الرأسمالية وبين أزمة معظم الأنظمة الحاكمة في هذه المنطقة والتي تماهت مع المشروع الإمبريالي.
• وعي شعوب هذه المنطقة بالحاجة إلى الدفاع عن الوجود والحاجة إلى التحررمن التبعية والسيطرة الإمبريالية، وهذا يتطلب وعي الإمبريالية واستطالاتها العضوية: الصهيونية والقوى الرجعية والفاشية وقوى الاستبداد، وهذا يستدعي وعي آليات النهب والتبعية ودورها في التأخر التاريخي لشعوب المنطقة.
• وعي الحاجة إلى التقدم على صعيد شعوب المنطقة وهذا يفرض على النخب وعي الضرورة التاريخية للتقدم ووعي حالة التأخر التاريخي وشروط تجاوزها.
• معاناة أكثرية شعوب المنطقة المسحوقة وشعورها باستفحال الأزمة القائمة والتطلع إلى تجاوزها، ووعي هذه الأزمة من قبل النخب على أنها أزمة البنى والكيانات المحلية التابعة والتي دخلت مأزقها التاريخي ولم تعد قادرة إلا على إعادة إنتاج هذه الأزمة، ووعي حقيقة انسداد الآفاق نهائياً أمام هذه الأنظمة وأن المخرج الوحيد الآمن هو التغيير السلمي الجذري والشامل لهذه الأنظمة تمهيداً لولادة البديل الوحدوي والديمقراطي.
إن هذه العوامل الجاذبة للوحدة ترتكز على قاعدة تاريخية ثابتة هي شعور شعوب هذه المنطقة الممتدة من قزوين إلى المتوسط بأنهم ينتمون إلى منطقة تعتبر بؤرة الصراع العالمي، والتي تعمل الامبريالية على إسقاطها وتفتيتها لتكون طوق النجاة لاستمرار النظام الرأسمالي بأكمله.

العوامل النابذة للوحدة

تتجلى في حالة التأخر التاريخي الذي يلف معظم شعوب هذه المنطقة والتي تتمظهر في إلغاء دور الجماهير وتزييف وعيها، كذلك حالة التأخر الاقتصادي وتبعيته للخارج، وأيضاً تفكك البنية الاجتماعية وهيمنة الأيديولوجيات التقليدية التي تعمل على تكريس البنى المتخلفة وآليات النهب والتبعية مع كل ما ينتج عن ذلك من استجابات سلبية تتجلى على صعيد الإنتاج والاستهلاك والتوزيع والتبادل وتقسيم العمل وتطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، وكذلك تتجلى العوامل النابذة في واقع التجزئة الذي تعمل على تكريسه أنظمة تمثل مصالح أشخاص وفئات مندمجة في البنية السياسية القائمة التي تعمل على استنبات ايديولوجيات دينية ومذهبية وقومية معادية لعملية الوحدة والتي تكرس حالة «شخصنة السلطة» على مختلف المستويات مما أنتج حالة من الغيبوبة الفكرية التي تبرر الطاعة والخضوع والعنف وتجرم المعارضة وتهدم العقول.
إن الصراع بين العوامل الجاذبة والنابذة هو فعل مستمر باتجاه توحيد مكونات هذه المنطقة مع احترام التعدد والتنوع والاختلاف باعتبارها حالة ديناميكية تستدعي تنوعاً في مواقف القوى والطبقات المكونة لهذه المنطقة، وبالتالي تنوعاً في الدور الذي تلعبه سلباً أو إيجاباً في الصيرورة الوحدوية والذي يتحدد بمستوى الوعي المطابق للواقع الموضوعي.