تحديد الخطوط الفاصلة..!
لا يجادل أي مواطن، أو معني، أو مهتم، أو مراقب، أو أي سياسي جدي بأن إنجاز الحل النهائي للأزمة السورية، التي دخلت عامها الرابع، هو أمر غير قابل للتحقيق ما لم يجر إيقاف التدخل الخارجي، وهو الأمر المنوط والمنشود من مؤتمر جنيف، بوصفه إطاراً دولياً، يفترض أن يكون ملزماً لأطراف الصراع السوري الخارجيين بذلك، وهو ما تلح عليه موسكو، الصديقة للدولة والشعب في سورية، بتكرارها، منفردة اليوم، ضرورة استئناف مسار جنيف لحل الأزمة، بعيداً عن منطق البازارات الأمريكية.
فإذا كان القبول الأمريكي بالحل عبر مؤتمر جنيف هو طريقة لدى واشنطن لمنعه، أو إخراجه عن مساره، أو تأخيره، لتسجيل أكبر النقاط لها في سجل هدف «الإحراق النهائي لسورية كدولة وشعب وكينونة وطنية»، فلا ينبغي أن يكون بين السوريين ما يمنع لقاءهم وحوارهم الوطني الشامل، والهادف لإخراج البلاد من محنتها، وإنهاء كارثتها الإنسانية، تمهيداً للتغيير الجذري والعميق والشامل الذي يستحقونه، على أن يكون هذا الحوار السوري- السوري ندّياً، بعيداً عن منطق انتصار طرف على طرف، بمعنى «الغالب والمغلوب»، وهو بطبيعة الحال حوار لا يشمل الإرهابيين والتكفيريين الوافدين من الخارج، ومن بحكمهم من السوريين، المطلوب مواجهتهم وطردهم أو إنهاؤهم، بوصفهم أدوات لذاك التدخل الخارجي، المطلوب وقفه أساساً.
وهذا يعني بالملموس أن الظروف الحالية التي تفرض «توقفاً مصطنعاً لمسار جنيف»، حسب توصيف الدبلوماسية الروسية، لا تعني ألا يقوم السوريون في الداخل بخطوات فيما بينهم لتخفيض مستوى التناقض والاقتتال، وفتح الأبواب أمام حلول جزئية قابلة للتوسع، لتتلاقى في نهاية المطاف مع الجهد الدولي المبذول من أصدقاء سورية الحقيقيين، وليسوا المجتمعين في لندن مؤخراً. وتشمل هذه الخطوات اليوم، مثلاً، صيانة ومنع انهيار الهدنات والتسويات الجارية، عبر تخليصها من كل شوائبها أو أية ممارسات ضارة بها وبأصدائها لدى المستفيدين المباشرين منها أو لدى عموم المواطنين، والتوقف كذلك عن كل أشكال الاعتقال التعسفي، وإطلاق سراح معتقلي الرأي والموقوفين اعتباطياً على خلفية الأحداث الجارية، وتقديم المتورطين للمحاكمات، واستئناف الدولة لدورها كراع وحام للمواطن، لا كطرف عليه.
وإذا كنا نقول إنه منذ تموز 2011 توقفت الخطوات الداخلية الجدية والحقيقية السورية لإيجاد حل سياسي للأزمة، باستثناء إصدار الحكومة لبرنامج حل الأزمة وتجميدها له لاحقاً، لتصبح كامل الفترة الفاصلة بين ذاك التاريخ واليوم حافلة بالفرص الضائعة، فإن مواصلة هذا المنطق وتغييب الجهد والعمل السياسي الجدي الداخلي يعني من حيث الجوهر فتح الباب على مصراعيه أمام القوى الدولية المعادية لمواصلة إحراق سورية عبر استنزافها، وسط صراع أجمعت كل الأطراف أن لا حل عسكرياً له.
وإن الدعوة لجهد داخلي ليست بجديدة، ولكنها تعني اليوم مرة أخرى، في الوقت الفاصل لاستئناف جنيف، ضرورة الوصول إلى توافقات وتفاهمات بين السوريين، تسمح لهم بتقاطعات وطنية أكبر، وبالذهاب للمؤتمر، والخروج منه بأفضل النتائج التي تخدم الوطن والمواطن بمواجهة عالية الكفاءة ضد «الأمريكي» وحلفائه وأدواته على الطاولة.
وهنا ينبغي تحديد الخطوط الفاصلة: الجهد الأساسي المطلوب، أولاً وأخيراً، هو سوري، لإنجاز حل سوري، ينهي الأزمة والكارثة السورية، ويخدم المواطن السوري، ويؤمن التغيير السوري المنشود والمستحق منذ عقود، ويحافظ على السيادة الوطنية السورية، ولكن طرح هذا الهدف مبتسراً عن سياق الدرجة العالية لتدويل الأزمة السورية (التي يتحمل مسؤوليتها بالدرجة الأولى كل الأطراف السورية المتشددة في الموالاة والمعارضة التي أضاعت الفرص الداخلية المتتالية ببداية الأزمة)، بمعنى الحاجة للإطار الدولي الملزم بوقف التدخل الخارجي، سيجعل هذا الحل المطلوب بعيد المنال، وغير قابل للتحقيق، أي إبقاء الشعب السوري والجيش السوري في حرب استنزاف مفتوحة الحدود والآجال، من شأنها فقط أن تضغط أكثر على السوريين، وترفع فاتورة خسائرهم بشرياً، واقتصادياً، وعسكرياً، واجتماعياً، لتزيد من أكلاف ما بعد خروجهم من هذه الأزمة. وبذلك يصبح من شأن أي تصوير للجهد الداخلي على أنه بديل منقطع عن الإطار الدولي أن يزيد الكلفة البشرية والمادية لدى الشعب السوري، بما يتلاقى بالجوهر والمحصلة مع الهدف الأمريكي الصهيوني المعلن لإعادة سورية للعصر الحجري.