إفتتاحية قاسيون العدد 503: الجيوب والاختراقات..وضمانات وحدة البلاد
يزداد القلق حول مستقبل تطور الأوضاع في البلاد، فمن جهة تتصاعد وتيرة التدخلات الخارجية في شؤونها ومحاولة التأثير على اتجاهات التطور فيها، ومن جهة أخرى يزداد الشحن داخلياً باتجاهات مختلفة، وأخطرها على الإطلاق الشحن الطائفي من أكثر من طرف.. ولا يبدو في الأفق المنظور أن الأمور سائرة نحو الحل، بل يبدو أنها تسير نحو مزيد من التعقيد.
والسبب الأساسي في تعقد الأمور هو التدخل الخارجي السافر الذي يسير على درب تحقيق الفوضى الخلاقة، وهذا الأمر طبعاً لا يعفي الأطراف الداخلية من مسؤوليتها فيما آلت إليه الأمور.. ابتداءً من الدولة التي ساهمت سياساتها السابقة في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، وكذلك معالجتها الحالية للأزمة التي اتسمت بالتأخر والتردد وأحادية المعالجة، ناهيك عن الأخطاء الفادحة التي أثرت على مجرى الأحداث بالمعنى السلبي.. وانتهاءً بالحركة السياسية بمختلف أطيافها المتهتكة وغير القادرة على التأثير في الشارع بالشكل المطلوب، بل وحتى المقطوعة الاتصال به في أحيان كثيرة.
لذلك بقيت حركة الشارع الناشئة تحت تأثير عوامل أخرى عديدة منظورة وغير منظورة، والواضح اليوم أنها تتعلم من خلال حركتها، وحين نقول حركة، لا نقصد الحركة على الأرض فقط، وإنما نقصد أن البلاد تشهد نشاطاً سياسياً متصاعداً للجماهير التي تدخل حلبة السياسة من أبواب عديدة، إن كان بالتفكير أو القول أو الفعل..
ولابد من التأكيد أن مستقبل البلاد مرتبط بتطور النشاط السياسي المتصاعد للجماهير، والذي يجب ملاقاته وحمايته من مختلف التأثيرات الغريبة عنه والضارة به وبالبلاد.
والتدخل الخارجي الوقح اليوم يحاول أن يظهر من خلال إجراءاته وتصريحاته وكأنه المدافع عن حركة الشارع وحقها بالتعبير، ولكن هذا في الواقع هو آخر ما يهمه، فهو بالأحرى يريد أن يستخدم ما يجري لتمرير أهداف أخرى تماماً، وجوهرها إنهاء دور سورية الإقليمي، وضرب جبهة الممانعة والمقاومة، وإنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي لصالح المخطط الإمبريالي الأمريكي- الصهيوني، وتكريس انتصار الليبرالية الاقتصادية على الأرض سياسياً وبشكل نهائي.
ولكن مواجهة هذا التدخل الخارجي الذي نراه اليوم بأم العين، والذي سيزداد خلال الأيام والأسابيع المقبلة، غير ممكن دون استكشاف وحصر ومحاصرة الثغرات والاختراقات والجيوب التي صنعها وطورها خلال الفترة الماضية، فالتدخل العلني الحالي هو محصلة ونتيجة لتدخل قديم، علني أحياناً، ومستتر أحياناً أخرى، بعضه تمت رؤيته بالعين المجردة وهو سهل التقدير، وبعضه الآخر لا تراه إلاّ البصيرة وصعب التقدير.
ولكن الأكيد أن معرفة وحصر هذه الاختراقات والجيوب هو الكفيل بإحباط التدخل الإمبريالي العلني الخارجي الذي يجري اليوم بشكل سياسي وإعلامي، والقادر على التطور غداً بأشكال أكثر خطورة.. إن التدخل الذي نراه اليوم يهدف إلى تثمير وقطف نتائج كل التآمر السابق الذي استند على نقاط الضعف التي أنتجتها السياسات الداخلية المختلفة بلا أي شك.
وإذا أردنا أن نحصر الآن أهم الاختراقات والجيوب التي مهدت وتمهد للمخطط الإمبريالي الأمريكي- الصهيوني اليوم فهي:
1 ـ الاختراق في المجال الاقتصادي- الاجتماعي: بعد كل ما يجري اليوم لا يمكن القول إن السياسات الاقتصادية- الاجتماعية التي نفذت في المرحلة السابقة، وخاصة خلال السنوات الخمس الأخيرة، كانت بريئة، فمن الناحية العلمية والمعرفية كان معروفاً مسبقاً أين مآلها.. ومن الناحية العملية التجريبية، واستناداً إلى تجارب الآخرين، كانت معروفة نتائجها مسبقاً.. ولكن الذين روجوا لها وقاموا بتنفيذها، غطوها بستار كثيف من القنابل الدخانية والأرقام الكاذبة، ومارسوا تلاعبات وابتزازات كبيرة، واستطاعوا أن ينجحوا إلى حين في تضليل المجتمع والدولة، ولكن بما أن الأمور تقاس بنتائجها في نهاية المطاف، فقد استنفذوا رصيدهم ورحلوا وكأن شيئاً لم يكن، مع أن المطلوب مساءلتهم ومحاسبتهم ومحاكمتهم على ما يجمع عليه المجتمع بوصفه جرائم اقترفوها بحق الشعب السوري والاقتصاد السوري والأمن الوطني السوري.. إن ما نعاني منه اليوم هو بجزء كبير منه من صنع أيديهم.. إن فهم هذه المرحلة وسياساتها، ومعالجتها جدياً هو ضمانة للمستقبل ودرس هام يجب أن نستفيد منه جميعاً.
2 ـ الاختراق في المجال السياسي- المجتمعي: إن حجم الخلايا النائمة في المجتمع، المسلحة أحياناً، لا يمكن تفسيره بتقصير أمني بحت فقط، إنها من جهة تعبير عن وضع اجتماعي ازدادت فيه مساحة الفقر والبطالة، التي خلقت التربة لمختلف أنواع التطرف التي يمكن لمن يريد تنظيمها أن ينظمها، إن كان من خارج الحدود أو من داخلها.. وكل ذلك جرى على أرضية فساد واسع كان المجتمع مكبلاً وغير قادر على مواجهته.. لقد تبين أن الفساد الذي فتح حدود البلاد أحياناً، والذي ربى على ضفافه مجموعات من المهمشين المستفيدين من فتاته، هو الحاضنة الأساسية لكل الاختراقات التي جرت في المجتمع، والتي يحاول اليوم نتاجها التطفل على حركة الشارع والتستر بها والاختباء وراءها محولاً إياها إلى دروع بشرية له.. وهنا من المهم إعادة التفكير بكل أشكال التمويل الخفي لما سمي بمؤسسات المجتمع المدني، وعندما يتبين اليوم أن هذا الاختراق قد استخدم دور العبادة وما بحكمها وصولاً إلى الإنترنت مروراً بالنشاطات الخيرية، فإن النجاح النسبي لهذا الاختراق إنما هو تعبير مكثف للضرر الذي ألحق بالحركة السياسية للشارع السوري على مدى عقود، والتي كانت بتنوعها تعبيراً عن الوحدة الوطنية الحقيقية العابرة للقوميات والأديان والطوائف.
3 ـ الاختراق بجهاز الدولة: إن منطق الأمور يقول ويؤكد أن جهاز الدولة لا يمكن أن يكون بمنأى عن هكذا مخطط كبير، وهو في ظل انتشار الفساد وانخفاض مستوى الحريات السياسية في البلاد يصبح أكثر قابليةً للاختراق على مختلف مستوياته، وإذا كانت هناك خلايا نائمة في المجتمع فلماذا يجب أن ننفي احتمال وجود خلايا نائمة خبيثة في جهاز الدولة نفسه؟ والأخطر أن تكون هكذا خلايا موجودة في منظومة القوة لدى جهاز الدولة..
إن الممارسات الأمنية غير المبررة التي حدثت مؤخراً إن كان في الاعتقالات أو في المواجهات.. والتي خرجت عن دائرة حد الكفاية الضرورية لمواجهة من يحمل السلاح والتي سببت جروحاً عميقةً غائرةً في جسد المجتمع والتي لم يكن لها مبرر على الإطلاق، تطرح تساؤلاً مشروعاً حول طبيعة ما جرى: هل كلها مجرد أخطاء سببها الجهل وعدم التدريب المناسب لمواجهة الأوضاع المستجدة؟ أم أن هنالك شيئاً آخر.. أم أن الاختراق الخارجي والخلايا النائمة كانت موجودة حتى هنا؟
إن التاريخ القريب في السنوات الماضية قد أكد لنا أن جهاز الدولة وفي أعلى مستوياته قابل للاختراق، فهل يمكن تكرار ذلك؟ لقد قلنا سابقاً إن ظاهرة عبد الحليم خدام تمثل رأس جبل الجليد، والبواخر عادةً تصطدم في البحار بقاعدة جبل الجليد.. إن دراسة احتمال الاختراق الخارجي في هذا الميدان بعناية وعلى أساس موضوعي- سياسي وليس فقط تكنيكي- فني هو ضمانة لتفكيك أحد الصواعق الأساسية للتفجير الداخلي الكبير الذي يجري التحضير له على قدم وساق من جانب أعداء الخارج وأعداء الوحدة الوطنية في الداخل..
إن البلاد أمام مفترق طرق، والدراسة العميقة والسريعة للمرحلة السابقة والحالية، والخروج باستنتاجات سريعة وإجراءات تنفيذية، ستحافظ على وحدة البلاد، وستعزز الوحدة الوطنية، وستحبط كل المؤامرات والمخططات الخارجية الإمبريالية الغربية- الأمريكية- الصهيونية، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن.