التصنيفات الوهمية كأداة للتدخل الخارجي
تعمد الكثير من الأوساط السياسية والإعلامية في الداخل والخارج في سياق مناقشتها للحراك في سورية إلى اختزاله بشكل تعسفي ضمن ثنائيات تضليلية جاهزة غالباً ما يجد السوريون أنفسهم يحشرون فيها قسراً، ويأخذون منها مواقف مسبقة الصنع بدلاً من أن يصنعوا مواقفهم على الأرض لتنعكس لاحقاً في المنابر السياسية والإعلامية المختلفة.
جميع الثنائيات من نوع: معارضة- نظام، ثورة- مؤامرة، مؤيد- معارض، وطني غيور- مندس...الخ، تخدم مساعي واضعيها من مختلف المواقع في الخلط وتضييع الحدود بين الحاجة الموضوعية للإصلاحات الجذرية الاقتصادية- الاجتماعية والسياسية من جهة، وبين محاولات أخذ الحراك وركوبه من الداخل والخارج باتجاهات الفوضى والمساس بموقع سورية في خارطة الاصطفافات السياسية في المنطقة وفي العالم.
فمنذ بداية الحراك في سورية اندلع الصراع في رؤوس السوريين بين واقعهم القائم من جهة وبين حاجاتهم وأمانيهم من جهة أخرى، وبدأت مطالبهم الخاصة تصاغ شيئاً فشيئاً لتصبح عامة وجامعة على طول البلاد وعرضها، بما يوحدهم على أساس تطلعاتهم في تحقيق العدالة الاجتماعية والتي أول ما تبدأ في مكافحة الفساد والفاسدين، إلى جانب وحدتهم والتفافهم حول الاستحقاقات الوطنية المنتصبة وعلى رأسها تحرير الجولان السوري المحتل، هنا يصبح الحراك حدثاً جامعاً وموحداً الشعب السوري ومعززاً، في حال ملاقاته، للجانب الوطني على أساس اقتصادي اجتماعي متين.
وكان من الصعب لمواقف الأكثرية من السوريين، الطبقية والسياسية والوطنية، أن تشكل طرفاً في إحدى ثنائيات القامعين والمضللين الساعية إما لوأد الحراك أو لسرقته وركوبه، والقائمة على تضليل السوريين من خلال قص الأشكال الثورية المنتمية إلى الواقع الخاص للبلدان العربية التي شهدت الانتفاضات الثورية، وإلصاقها قسراً على الواقع السوري الخاص، وهذه أكثر الأشكال تضليلاً لأنها تلامس تعاطف السوريين مع تلك الانتفاضات.
فمن الطبيعي لشكل الحراك الشعبي في سورية أن يتأثر بالأشكال التي جرت في تونس ومصر، وأن يستلهم إبداعات الشعوب المجاورة ولمحاتها النضالية في سياق نضاله الخاص لتحقيق مطالبه وتطلعاته، ولكن الاستفادة من أي موروث ثوري، قريب أم بعيد، لا تعني تكراره إطلاقاً. والثورة بمضمونها التغييري ليست أبداً وصفة جاهزة مجرّبة، فهي إن كانت كذلك فلن تملك شيئاً من التغيير، ولطالما حملت الثورات في التاريخ في جيوبها الكثير من المفاجآت والأشكال الإبداعية الجديدة.
وفي النظر إلى نتائج تلك الثنائيات على الأرض،لم نجدها إلا تجسيداً في نهاية المطاف للثنائية التي قامت فعلياً على أرض الوطن ثنائية جيش بمواجهة مسلحين، بما يعيد السوريين، الذين لم يَزُل عنهم احتقانهم المتراكم، إلى بيوتهم في انتظار انجلاء الضباب عن حراكهم،وبما يرفع منسوب الدماء و يؤدي إلى الوقوع أخيراً في سيناريو التدخل الخارجي وذلك بعد تحضير الأجواء لذلك من الخارج أيضاً عبر العقوبات الدولية لرفع منسوب الاستياء الشعبي.
كل هذا يذكرنا بالأجواء التي سبقت احتلال العراق فعشية دخول القوات الأمريكية للعراق في عام2003 ،عمدت الكثير من النخب السياسية اليائسة والمهزومة التي أيدت الاحتلال، في محاولةٍ لتبرير موقفها، إلى الترويج إلى الفكرة القائلة باستحالة تحرك الجماهير ضد الأنظمة الديكتاتورية العربية التي تسارع فوراً إلى قمع بوادر أي تحرك قد ينشأ على الأرض، وأن الجماهير المبعدة أمداً طويلاً عن السياسة والثقافة والتعليم لا تملك الحيلة لتدبّر شؤونها في الإطاحة بحكّامها، لذا فقد وجب على الشعوب أن ترتهن لمشيئة الخارج حتى في «ثوراتها».
يومها كان هناك من يسعى لحشر الجميع في طرفي ثنائية (أمريكا-صدام) : طرفها الأول مع الاحتلال ضد صدام، وطرفها الثاني مع صدام ضد الأمريكان، وليس لديك الخيار أبداً في ألا تكون لا مع هذا أو ذاك بل مع الشعب العراقي، وبكلمة واحدة كان علينا أن ننتمي إما للدم العراقي المراق أمريكياً أو للدم العراقي المراق بأيدي نظام صدام.
اليوم ومع صعود الموجات الثورية في المنطقة لم يعد الشعب العراقي على مسرح الحدث السياسي وحده فقط بل عادت معه جميع الشعوب العربية لتكنس الأنظمة المستبدّة، وليس بمعونةٍ من الخارج هذه المرّة بل رغماً عن أنفه، كما حدث في مصر وتونس، وظهر أن ما يوحد حركة الشعوب ليس فقط نضالها ضد ناهبيها ومستبديها في الداخل، بل نضالها ضد محتليها الخارجيين أيضاً، كما يحدث في العراق اليوم حيث يرفع شعار (لا للطائفية.. لا للاحتلال) وهو من الأهمية بما يوحد قوى الشعب العراقي كافة.
فلا وجود للثنائيات المزعومة إلا في مخططات خالقيها..
وليست لعبة الثنائيات إلا أداة للفوضى والتدخل الخارجي وغسل الدماء بالدماء.
ولا خيار إلا بوعي التعدد والتنوع الكبير في طرف وحيد هو الشعب السوري..