هل سيتوقف الحراك؟!..
بعد أكثر من شهر على ولادته، وبعد أن حاولت جهات مختلفة ولغايات مختلفة ركوب موجته.. هل سيستمر الحراك الشعبي؟، وهل سيتمكن من التغلب على معيقات تطوره، ويغسل عن جسده الغض وُحول الغرباء؟..
لنعد إلى ما قبل الحراك، ولنحاول مرة أخرى قراءته بعيداً عن حمأة الدماء وردود الأفعال..
أول ما يجب الاعتراف به هو موضوعية الحراك، أي إن القول والتعامل مع كل ما يجري على أنه مجرد مؤامرة ونقطة انتهى، لن يفعل سوى أنه سيغلق الباب أمام إمكانية حل حقيقي وسريع للأزمة، لأن غض النظر عن الأسباب الحقيقية التي خلقت الحراك يعني دفع الأمور نحو نهايات ما تزال مجهولة وغير متحكَم بها، وإن كان ظاهرها حتى الآن ينبئ بما لا تحمد عقباه..
موضوعية الحراك هي في الجوهر، تدني درجة رضا الناس عن النظام الذي يحكمهم، وذلك في جانبين أساسيين: الجانب المعيشي الذي تدهور خلال السنوات الأخيرة تدهوراً لا مثيل له في كل تاريخ سورية الحديث، والجانب الديمقراطي الذي وبالترافق مع الجانب الأول، ضيّق الخناق على قدرة الناس على بث آلامهم ومعاناتهم، وكتمَ إمكانية البوح الحر وحوّله همساً مترقباً ومحتقناً أكثر فأكثر..
حجر الزاوية فيما يشهده العالم اليوم ومن ضمنه سورية، هو اشتداد الأزمة الرأسمالية العالمية، وازدياد تمركز الثروة الذي فتك بالشعوب وحملها مسؤولية كبرى هي مسؤولية الحفاظ على النوع البشري!، لأن تمركز الثروة المستمر في التمركز وصل إلى حد أن (أغنى 10% يستهلكون 59% من الناتج العالمي) الأمر الذي يضع البشرية بأكملها على مفترق طرق، فإما أن تقبل بإفنائها المحتوم إن هي رضخت لاستمرار التمركز، أي لاستمرار الرأسمالية، أو أنها ستقوم على ناهبيها وتعيد ترتيب الكرة الأرضية كما يليق بثلاثة ملايين سنة من عمر البشرية عليها..
استشرفت اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين ومنذ اجتماعها الوطني الأول أن الجماهير ستعود إلى الشارع، حيث جاء في تقرير لجنة متابعة تنفيذ ميثاق شرف الشيوعيين السوريين في (18/10/2002) ما نصه: (التجربة الماضية أثبتت أن عمق الأزمة يتناسب طرداً مع درجة الابتعاد عن الجماهير، وإذا علمنا أن جدية مشاكل اليوم تدفع الجماهير للعودة إلى الشارع..) وبنت استشرافها على دراسة معمقة للأزمة الرأسمالية العالمية، وأضافت فيما يخص الوضع في سورية عنصر رؤية أساسياً وهاماًولا يمكن فهم ما يجري اليوم دونه هو ما أسمته الحل المركب.. وعنت بذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية وفي محاولتها لإيجاد حلول للخروج من أزمتها المستعصية، ستسعى ما استطاعت للسيطرة على مناطق النفط من قزوين إلى المتوسط لتثبيت الدولار عملة عالمية تؤجل انهياره تحت ضغط منافسيه الجدد إلى حين. وفي سعيها إلى السيطرة صاغت سيناريوهات متباينة وفقاً لخصوصية كل بلد من بلدان المنطقة، فكان الحل العراقي مثلاً هو كسر العظم العسكري وكذلك الأفغاني وبالمقابل فالحل المصري هو السيطرة الاقتصادية الاحتكارية وتعميق السياسات الليبرالية في مصر إلى الحد الذي قيل فيه إن مصر التي كان لدورها امتداد عربي وإفريقي انحسر فأصبح عربياً فقط ثم عربياً محدوداً ثم مصرياً ثم لم يعد النظام المصري قادراً على تزفييت شارع من شوارع مصر. أما سورية ووفقاً لوضعها الخاص من حيث الموقع، التاريخ، والموقف من المقاومة، فقد كان مطلوباً وما يزال إحداث ثغرة في أكبر إقليم اقتصادي وديموغرافي في العالم يمتد من إيران والعراق إلى تركيا، فسورية لبنان ومصر، وسورية في قلب هذا الإقليم المطلوب السيطرة عليه، وتبعاً لذلك فإن رأس الشعب السوري ووحدته مطلب استراتيجي لأمريكا وكان من الصعب وفقاً لما سارت عليه الأمور في كل من أفغانستان والعراق والتعثر الذي أصاب المشروع الأمريكي في المنطقة، كان من الصعب حسم قضية سورية عسكرياً، يضاف إلى ذلك أن القارئ الموضوعي لتاريخ سورية لا يمكن أن يغيب عنه أن الشعب السوري وإن كان قد استُعمر لكنه تعامل مع الاستعمار كما لم تتعامل كثير من الشعوب الأخرى إذ لم تهدأ مقاومته يوماً في ظل الاحتلال وهذا ما أورث الأنظمة المتعاقبة مواقفها الوطنية التي ليست سوى تعبير عن مزاج الشعب السوري وهويته لذا فإن الحسم العسكري وحده باهظ التكلفة وربما غير مجد لذا كان الحل المركب أي أخذ سورية من الداخل ثم من الخارج.. من الداخل بتفتيت أساسات الوحدة الوطنية وخلق حالة من التوتر الاجتماعي وعدم الرضا توصل الشعب السوري إلى حد الكفر بنظامه وتمني الشياطين بديلاً عنه والوسيلة الأساسية للقيام بذلك هي تطبيق السياسات الاقتصادية الليبرالية من خصخصة ورفع دعم واستهانة بحقوق العمال والفلاحين الأمر الذي نبهت اللجنة الوطنية مراراً وتكراراً لخطورته وتهديده لمستقبل سورية.. كان ما كان وطبقت السياسات الليبرالية وتلقت ممانعة لا بأس بها من داخل جهاز الدولة لكن هذه الممانعة لم تستطع تغيير النتيجة النهائية لأنها افتقدت إلى دعم أصحاب المصلحة الحقيقية في وقف تلك السياسات، افتقدت دعم الجماهير الشعبية الواسعة التي غاب صوتها طويلاً تحت وطأة تدني مستوى الحريات السياسية وضياع تمثيلاتها الحقيقية على مسرح السياسة، وإذا أردنا الحديث عن مؤامرة فمن هنا تبدأ المؤامرة، أي من تطبيق السياسات الليبرالية. ويكتمل الحل المركب بالتدخل الخارجي بعد أن تكون السياسات الليبرالية خلقت جواً من الاحتقان والتهميش مع بعض البهارات السلفية والطائفية ونشر المصطلح اللبناني «خطوط التماس» على الأرض والمقصود خطوط التماس الجغرافية بين الطوائف.. يأتي حينها التدخل الخارجي ليحسم الأمور ويأخذها نحو نهاياتها «الأمريكية»..
هذا وفقاً للمخطط الأمريكي، وما نراه على الأرض اليوم هو خليط من الحراك الشعبي ذي الأساس الموضوعي ومن محاولات امتطائه أمريكياً ويجدر بالذكر أن التحليل يجب أن يأخذ بعين الاعتبار مصلحة الممثلين الداخليين للاتجاهات المختلفة، فالشكل الدموي الذي جُرَّ الحراك نحوه جراً سواء بالتعامل الخاطئ معه أم بتدخل قوى الظل أم بهما معاً فإنه يصب مصباً واحداً وهو ضرورة رفع منسوب الدم إلى أقصى الحدود وإجهاض الحراك سريعاً ليلي ذلك إعادة اقتسام الثروة دون أن ينال الحراك نصيبه منها والمقصود هنا هو أن الفساد الكبير داخل جهاز الدولة من جهة والبرجوازية الكبرى خارج جهاز الدولة والمتضررة من الفساد الكبير يتبارزان في الشوارع مستخدمين دماء المتظاهرين لفرض توازن قوى جديد يتم التحاصص على أساسه بين الناهبين، مع بقاء المنهوبين منهوبين وعلى حالهم وربما أسوأ. ومن مصلحة الطرفين ألا يستمر الحراك، لأن استمراره يعني بالضرورة نضجه وتالياً فإنه سيكنسهما معاً ويعيد توزيع الثروة بين الناهبين والمنهوبين..
هناك اليوم من يتعامل مع الحراك كما يتعامل شارلوك هولمز مع الجرائم التي يحقق بها ويبحث دوماً عن رأس الأفعى التي تتحكم بكل شيء، وعلى أساس ما سبق فإن شارلوك هولمز لن يحل هذه القضية بالذات لأن الحراك الشعبي، وفي سياق تطوره المستمر، يبدل قياداته بشكل يكاد يكون يومياً بحثاً عن قيادات وطنية حقيقية توصله إلى بر الأمان.. وهذا الانعكاس الطبيعي لموضوعية الحراك، ومآلاته الوطنية.
للذين يريدون مصلحة سورية، ما تزال فرصة التغيير الوطني متاحة أمامهم، وكذلك فرصة قيادة الحراك على الأرض.. وذلك بإعلان التراجع الفوري عن السياسات الليبرالية وضرب الفاسدين الكبار المعروفين منهم والمتخفين، ومحاسبتهم على خيانتهم العظمى، وبإطلاق الحريات السياسية وحماية المتظاهرين والأخذ بيدهم، ورص الصف الوطني والاستعداد بكل جدية لتحرير الجولان كمهمة في المدى القريب..
الشعب السوري لن يضيع البوصلة، وهو لم يضعها يوماً، وسيقف إلى جانب من يؤمن بأنه يريد مصلحة سورية والسوريين!