عزل «الفاشية» وإنهاؤها..
تسير الملفات والقضايا الإقليمية والدولية العالقة نحو المخارج السياسية بسرعة متعاظمة، ومع كل تقدم بهذا الاتجاه يزداد الخناق على الظاهرة الفاشية العالمية. أي أن عملية معاكسة لتوسيع «خارطة الحريق» العالمية يجري تثبيتها، الأمر الذي يؤكد صحة الاستنتاج القائل بأن الاتجاه نحو الحلول السياسية هو السمة الأساسية لمرحلتنا الراهنة على المستويات المختلفة الدولية والإقليمية والمحلية، وهو استنتاج استند بدوره إلى أن التوازن الدولي الجديد الباحث عن ترجماته السياسية في ظل الأزمة الرأسمالية الكبرى مضطر قبل كل شيء إلى ردع الاتجاهات الفاشية وعزلها لتجنب دمار عالمي شامل.
شهد الأسبوع الماضي سلسلة من التسويات، في هذا السياق. ففي أوكرانيا جرى تحديد سقوف الصراع وآليات الخروج منه بعد كم هائل من التصعيد والتوتير، ليتثبت عجز الفاشيين وقلة حيلتهم. بالتوازي مع ذلك يمكن القول إن صياغة التسوية النهائية للملف النووي الإيراني قد نضجت وباتت بأجزائها الأولية موضع التنفيذ، تزامناً مع استمرار انعكاس التهدئة السعودية- الإيرانية، في لبنان، أولاً، وفي دول الخليج ثانياً عبر التقدم في ملف «تسويات البيت الداخلي» الخليجي، بإعادة قطر تدريجياً إلى وزنها الطبيعي، وإرغامها على التخلي عن «الإخوان». وفي مصر تتواصل تحضيرات الانتخابات الرئاسية كجزء من تنفيذ خارطة الطريق المعلنة، ما يؤكد على صحة الطريقة التي تم التعاطي من خلالها مع «الإخوان» باتجاه عزلهم سياسياً وشعبياً، بل وحتى إقليمياً والتي اكتملت بنزول ملايين المصريين إلى الشوارع في الثلاثين من حزيران الفائت لإسقاطهم. وفقط بعد ذلك العزل الشعبي جاءت المعالجات الأمنية. أما في تركيا، فإنّ الضغوط تتزايد على أردوغان أحد أدوات الفاشية في بلده والمنطقة. ولعل التصريحات الصادرة عن أوساط أمريكية رسمية او مرتبطة بها عن محاولة أردوغان «توريط» واشنطن بتدخل مباشر في سورية هي إشارة إلى حدة الخلاف بين التيارات الفاشية و«العقلانية» داخل المؤسسة الأمريكية، ومحاولة الأخيرة التضييق على الأولى ووكلائها الإقليميين.
إنّ تثبت الاتجاه العام نحو الحلول السياسية والتسويات على المستوى العالمي والإقليمي، سينعكس بلا شك على الأزمة السورية أيضاً، وسيسّرع الذهاب نحو حلّها سياسياً عبر مؤتمر جنيف. وإذا كانت بعض المعارضات وبعض مموليها لا تزال تحاول حتى الآن «تعديل ميزان القوى» لتثميره في هذا الحل، فإنّ ما بات واضحاً هو أنّه لا توجد إمكانية، لا سياسية، ولا عسكرية لفعل ذلك، لأنّ هذا التعديل لم يعد قراراً داخلياً أو إقليمياً فقط، وحتى أنّه ما عاد قراراً دولياً أحادياً يتخذه هذا الطرف أو ذاك، على اعتبار أن درجة تدويل الأزمة السورية العالية جداً ودرجة تشابكها مع الملفات الإقليمية المختلفة، جعلها مفتاح العقد لقضايا عدة متداخلة، الأمر الذي يجب أن يعيد إلى الأذهان أن المهمة الأساسية اليوم هي عزل الفاشية وتحجيمها وذلك عبر تسريع الوصول إلى حل سياسي يضمن ثلاثية: «إيقاف التدخل الخارجي، إيقاف العنف، وإطلاق العملية السياسية»، ودون ذلك فإنّ الاستنزاف سيستمر ويتصاعد، ليأتي الحريق على ما تبقى.
إنّ فهماً عميقاً للمسببات الداخلية والخارجية للأزمة السورية، ولطريقة تعاطي أطراف مختلفة معها، تحديداً تلك التي لا تكف عن تعقيدها ورمي مركز ثقلها نحو الخارج، هو فرصة تاريخية لا يجوز تفويتها، بل ينبغي استثمارها إلى الحد الأقصى، ولاسيما في ظل تراجع العدو الأمريكي وحلفائه. وإن أبسط البدايات تشمل حلحلة فورية لجميع المشكلات التي يمكن حلّها داخلياً كمشكلة المعتقلين مثلاً، وتوسيع دائرة التسويات والهدنات بأقصى ما يمكن لتطويق الخيار الفاشي شعبياً، مثلما ينبغي الإقلاع عن صب الزيت على نار الأزمة اقتصادياً عبر الإمعان في تحرير الأسعار وإرهاق كاهل الناس.
كما أن تطويق التيارات الفاشية في سورية لم يعد ممكناً دون فتح أفق التغيير بالخروج نهائياً من منطق التذرع بالأزمة لتأجيل محاسبة الفاسدين الكبار إلى ما لا نهاية، لأن هذا المنطق بالذات هو جزء أساسي من أسباب الأزمة واستمرارها.