حيادية أم ارتهان سياسي؟
بات الحديث عن مكونات الأزمة العميقة التي تعصف بالبلاد وتفنيدها ومناقشة سُبل حلها ممراً أساسياً لا بد من سلوكه في سبيل البدء بخطوات من شأنها طي صفحة الأزمة بلا عودة، إحدى أهم هذه المكونات هي عملية الانقسام السياسي العمودي للمجتمع على أساس الثنائية الوهمية (معارض/ موالي)، وقد استغل دعاة التطرف لدى النظام والمعارضة جميع أدواتهم من أجل إتمام مهمة تعميق هذا الانقسام وزيادة حدته ورفع خصوبته لتوليد المزيد من العنف والاقتتال الطائفي على حساب وحدة وتماسك الصف الوطني السوري.
الحيادية كرد فعل
في مقابل هذا الانقسام أعادت ظاهرة «الحيادية الشعبية» إحياء نفسها من جديد، الحيادية هنا لا تعني عدم الانحياز لطرف ضد آخر، بل إنها ذاك النوع من النأي بالنفس اتجاه عملية التغيير السياسية عبر رفض كل ما من شأنه الصب في خانة «التأطير السياسي»، فما أنتجه قمع الحريات العامة خلال العقود الماضية من رغبة بعدم الانخراط في التكتلات السياسية، يكاد يُعاد تدويره اليوم عبر الفوضى الخلاقة التي كشفت شهور الأزمة المنصرمة أن خيوطها نُسجت في معامل يُدرك القيمون عليها جيداً كيف تُضلّل الناس فتفقد أدواتها الضاغطة وتضيع بالتالي الصيغة الموحَدة والمعبِرة عن مصالحها المحقة في مسرح التداولات السياسية، والحيادية بتعريفها السابق لا تقتصر على من هو «خط وسط» في التجاذبات الناشئة، بل تتعدى ذلك إلى وجود من هو معارض محايد/ موالي محايد، وعلى الرغم من شراسة الموقف السياسي لدى البعض من الحياديين إلا أن هذا الموقف يبقى عاجزاً عن تمثيل نفسه في مواقع القرار السياسي من جهة، ومن جهة أخرى يحد من صلابة القوى السياسية التي تعمل جدياً على نقل مطالب الأكثرية المُهمَشة إلى مراكز القرار تلك.
انتشار فوضى «تمثيل الشعب»، وتخاذل بعض رموز القوى السياسية، والإعلام الموجه، والصورة النمطية لآلية عمل أحزاب الفضاء السياسي القديم، والبيئة المُعدة مسبقاً للتأقلم مع ظاهرة «الصراخ أهم من معالجة أسباب الألم»، جميعها عوامل ساهمت بخلق مسافة شاسعة ما بين الجماهير المُطالِبة وأداة تحقيق مطالبها (العمل الحزبي المُنظم)، حيث أصبح الكلام عن دور الأحزاب والنقابات في التغيير السياسي المنشود يُواجَه تارةً بالاتهام بمحاولة وأد الحركة الشعبية وإعادة البلاد إلى ما كانت عليه قبل نشوء الحراك الشعبي، وتارةً أخرى بالاتهام باللامبالاة اتجاه ما يجري في البلد والدعوة للانتظار حتى انتهاء «الحسم العسكري»، وإما يواجه بالصمت ممن يرى أن العمل المدني هو أقصى ما يستطيع أن يقدمه المواطن السوري للوطن، وهناك أيضاً من يوافق على ضرورة العمل الحزبي ولكنه لا يرى في أيٍ من الأحزاب الموجودة على الساحة السورية ممثلاً حقيقياً له.
«الحيادية الشعبية» لمصلحة من؟
وحدها القوى المتطرفة هي المستفيدة من هذا الابتعاد عن العمل السياسي، فهي بذلك تكون قد حققت هدفين أساسيين، أولهما غياب التمثيل السياسي الشعبي واسع النطاق وبالتالي إمكانية الظهور بمظهر «الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري» وهو ما شاهدناه خلال الأزمة من تنازع على ملكية التحدث باسم الشعب، وثانيهما هو استغلال هذا الغياب على طاولة الحوار المرتقبة وتحويله (أي الحوار) إلى تسويات يكون عمادها الأساسي رموز الفساد في طرفي الأزمة، من هنا يتبين أن أي حيادية مزعومة أو أي عزوف عن الرغبة بالعمل السياسي هو خارج عن نطاق النأي بالنفس ولا يُدرج إلا تحت مسمى التسليم بالارتهان السياسي، الارتهان لمن استهدفته الحركة الشعبية السلمية عندما خرجت في شهورها الأولى تُطالب باجتثاث الفساد، يُثبت الواقع اليوم أن أكثر من يتعرض للنقد والاستهجان في جلسات المحايدين هو أكبر المستفيدين من حياديتهم!
الصفعة الموجعة التي من شأنها أن تطال هذه القوى هي الإدراك الشعبي لحقيقة أن أي ردة فعل فردية كانت أم جماعية اتجاه المخططات المحبوكة التي يحاول الفاسدون تنفيذها، لن تغير وضع البلاد نحو الأفضل ما لم تكن مرتبطة بعمل سياسي جدي ومنظم، وإن استقلالية أي قرار وطني مرهون بوجود كتل سياسية فاعلة يكون مقدار تمثيلها الشعبي هو رافعتها الأساسية للمشاركة بصنع هذا القرار، وعليه ينخرط السوريون في العمل مع من يمثلهم، ومن لا يعترف بوجود من يمثله يسعى إلى خلق حركته بيديه، إن في تجربة الدستور السوري الجديد درساً ما يزال يحاول البعض إلغاءه من الذاكرة الشعبية، فرغم ما حققه الدستور من نقلة نوعية على كافة الصعد، إلا أن المادة الثالثة منه ما هي سوى نتاج عدم توحيد جهود المعارضة الوطنية في حينها، حيث أن بعض أطيافها رفض المشاركة في صياغته متجاهلاً أن «أي تغيير مُستهدف لا يمكن تحقيقه دون النضال من أجله بكافة الوسائل المتاحة»، فهل سينتظر «الحياديون» إلى أن يتم التكالب على لقمة عيش المواطن السوري حتى يعترفوا بضرورة العمل السياسي كأداة وحيدة لنيل المطالب المحقة التي تهدف إلى ضمان كرامة الوطن والموطن؟