«جنيف-3»: التراجع الأمريكي مستمر!
يعود الحديث عن مؤتمر «جنيف» مجدّداً، ويحمل هذه المرة رقم 3 في تصريحات دبلوماسيي الأطراف الراعية، وتلك دلالةً لا بد منها؛ فالواقع اليوم يختلف عنه بالأمس، إذ بات من الضروري تمييز مسار الجولة الثالثة من التفاوض عن الجولتين السابقتين (جنيف الأول والثاني) اللتين مثّلتا بلا شكّ محطتين ضروريتين باتجاه الذهاب إلى حلٍ سياسي للأزمة السورية، لكن العديد من جوانب النقص التي رافقتهما أعاقتا الدخول إلى أفق ذلك الحل، والبدء في تنفيذ مفرداته..
كان الوصول إلى «جنيف»، بغض النظر عن الرقم الذي يحمله، انتصاراً للشعب السوري، كونه ثبّت حقيقة فشل الغرب الاستعماري في التدخل العسكري في سورية، من جهة، وأن مهام التغيير الجذري الشامل لا تزال قائمة وضرورية، من جهة ثانية؛ وبكلمة واحدة مثّل الدخول في مسار «جنيف» انتصاراً للحل السياسي الذي تكمن فيه مصلحة الأكثرية الساحقة من السوريين. لذا من بالغ الخطأ اليوم تحميل «جنيف» أوزار القوى المشكّكة بالحل السياسي، أو تلك التي تسعى إلى نسفه من داخله، وعلى رأسها أمريكا والدول الإقليمية المتحالفة معها. بل بات من الضروري اليوم التمسّك بـ«جنيف»- الانتصار، ومنع تحوّله إلى شيء آخر، وتثبيته وتحويله إلى واقع فعلي. لأن إنجاز تلك المهمة يعني، بأحد جوانبها، تثبيتاً لميزان القوى الجديد الذي تكف فيه الولايات المتحدة عن عرقلة الوصول إلى حل حقيقي للأزمة السورية.
مثّل انعقاد مؤتمر «جنيف-1»، في منتصف العام قبل الماضي، نقطة تحوّل في طريقة تعامل القوى الغربية مع الأزمة السورية، اضطر يومها الأمريكيون إلى الموافقة شكلاً على الحل السياسي، تحت ضغط الأطراف الدولية الراعية المقابلة، روسيا والصين، ووضعت وقتذاك «رسمة» الحل للأزمة السورية. وفي الأيام التالية فقط، استحضرت الدول الغربية مجدّداً خطاب «إسقاط النظام»، وظلت طيلة فترة العام والنصف التالية تتأرجح بين ذلك الخطاب وبين مزاعمها في رعاية الحل السياسي. إلى أن استحق انعقاد «جنيف-2»، في مطلع العام الجاري، كترجمة للمزيد من التراجع الأمريكي على الساحة الدولية، وفي هذا المؤتمر جرى تثبيت حقيقة أن الحل سيكون سياسياً، وأغلق الطريق بالتالي نهائياً أمام كل مقولات «الحسم والإسقاط»، وتردّد صدى المؤتمر في داخل سورية من خلال قيام العديد من المصالحات والتسويات، وحل العديد من القضايا الإنسانية العاجلة. ولكن في المقابل، عملت الولايات المتحدة على ترتيب الفشل لهذا المؤتمر في كل مجرياته التي أنيطت بها، والتي تمثّلت بتشكيل وفد «المعارضة»، الذي حمّلته مهمة إفشال المفاوضات، واستبعاد إيران كطرف إقليمي مؤثّر في مجريات الأزمة السورية.
ولم يكد يمضي شهران على آخر جولات «جنيف-2»، حتّى عاد الحديث مجدّداً عن انطلاق «جنيف-3»، الأمر الذي يعكس تسارعاً زمنياً بتحول الحل السياسي إلى واقعٍ متحقّق، لكنه يعكس أيضاً تسارعاً تاريخياً، وتثبيتاً لميزان القوى الدولي الجديد، الذي يستمر فيه التراجع الأمريكي- الغربي، وتقدم الروس وحلفائهم في المقابل. تحولات كثيرة جرت خلال هذين الشهرين، تكرّس خلالهما التراجع الأمريكي- الغربي، بما يعادل أو يزيد عن التراجع الذي حصل في الوقت الذي ماطلت فيه أمريكا بالذهاب إلى تسوية الأزمة السورية، سواء قبل «جنيف» الأول، أو ما بين الأول والثاني؛ فقد أثمر سعي واشنطن خلال هذين الشهرين لتوسيع «خارطة الحريق» في العالم نتائج عكسية على مصالحها: فمن التراجع في أوكرانيا، إلى التشقق الذي بدأ يصيب «مجلس التعاون الخليجي» ودوره، إلى تراجع النفوذ الأمريكي في مصر، وتأزّم الدور التركي، وتخبطه في التعامل مع الأزمة السورية.. الخ. وفي ظل كل هذه المستجدات يأتي الحديث عن «جنيف» الثالث، الأمر الذي يؤكّد دور هذا المؤتمر في تثبيت التراجع الأمريكي، من زاوية الأزمة السورية، ويدفع في الوقت ذاته إلى ضرورة التفاعل معه إيجابياً، وتوفير كل مقومات نجاح الحل السياسي، من خلاله وعلى الأرض.