الفساد والانشقاقات.. حلقة جديدة
استندت عملية إدارة الأزمة في كل مراحلها إلى أجهزة وآليات وشخوص لا تمتلك موضوعياً المقدرة على الحل، وشمل القصور بالأداء مستويات الأزمة السياسية والأمنية والإعلامية، وأثبتت الوقائع الجارية أن المشكلة الأساسية في منطق إدارة الأزمة هي محاولة حل أزمة غير تقليدية بأدوات تقليدية، وجهل أو تجاهل للأسباب التي أطلقتها، والتي ما انفكت تغذيها حتى يومنا هذا، ذلك أن معظم الأدوات التي يستخدمها النظام في محاولته حل الأزمة هي بحد ذاتها جزء من المشكلة وجل أدائها يصب في خندق قوى الفساد داخل النظام ومجلس إسطنبول على حد سواء، وذلك من زاوية استمرار الصراع المسلح بما قد يودي بسورية كدولة وكشعب..
تراهن بعض القوى المتنفذة داخل جهاز الدولة على إمكانية حل الأزمة دون الإطاحة بالفساد الكبير الذي تعتبره حليفاً وسنداً سياسياً ومالياً وإعلامياً، وتخشى تلك القوى من اختلال صفوف النظام إذا تجرأ على خطوة كهذه، بينما تثبت الأزمة في كل فصل من فصولها على أن الفساد الكبير ليس عبئاً على جهاز الدولة فحسب، بل هو في الحقيقة ينتقل تدريجياً إلى الخندق المعادي لجهاز الدولة عن طريق الانشقاقات، أو العمالة للخارج وإعطائه الذريعة للتدخل، أوالاقتصار على الحل الأمني البحت وضرب المساعي السياسية الرامية لحل الأزمة، ويجدر التذكير بأن المذابح التي تلت الإعلان عن نتائج اللقاء التشاوري لم تكن إلا بداية لظهور مدى تغلغل قوى الفساد الكبير في بعض مفاصل جهاز الدولة، فقد ظهر الفساد منذ ذلك الحين كحصان طروادة الذي يعلم الجميع بوجوده، ولكن لا أحد يتجرأ على الاقتراب منه..
مثّل انشقاق رياض حجاب رئيس الوزراء أحد فصول مسلسل «الفساد والانشقاقات» وليس آخرها، قُدّم حجاب كرئيس لحكومة شكلت بغرض حل الأزمة وضمت قوى من المعارضة الوطنية، بمعنى أنها حكومة ذات طابع استثنائي مطلوب منها أن تتحمل مسؤولية استثنائية، ولكن لم يخرج منطق تسمية رئيس الحكومة عن المنطق السابق من حيث الاعتماد على شخص مغمور، عمل في جهاز الدولة فترة طويلة تقلد خلالها المناصب ضمن تسلسل تقليدي معروف، إلى أن أصبح وزيراً للزراعة في الحكومة السابقة ثم رئيساً لمجلس الوزراء، ودون أن نقع في مطب الحديث عن مناقب الرجل أو مساوئه مثلما فعلت الموالاة والمعارضة في مرحلتين مختلفتين، إذ طبلت وزمرت الموالاة له قبل الإنشقاق في حين صورته المعارضة مجرما جديدا أقبل على الحكم، وبعد الإنشقاق انعكس التقييم لدى الطرفين وانقلبت الآية، بعيداً عن هذا المنطق ينبغي البحث في جذر هذه الظاهرة وعمقها، ففي ظل وجود قوى الفساد الكبير في جهاز الدولة وخارجه على مدى سنوات وعقود تكونت عناصر بيروقراطية إعتادت أن تلعب دور الأداة التنفيذية لتلك القوى، وتشكل هذه العناصر المفاصل الأكثر هشاشة في جهاز الدولة، وطالما تيسّر في وقت سابق شراؤها من جانب قوى الفساد في جهاز الدولة فمن السهل شراؤها اليوم من جانب قوى المعارضة اللاوطنية وأطراف دولية غربية،وضمن هذه اللوحة يغدو انشقاق حجاب حلقة في مسلسل «الخطة البديلة» أو الخطة «ب»، أي تحالف قوى الفساد في النظام والمعارضة على صيغة محددة تضمن تحاصص محدد، وتختزل عملية التغيير بجملة ماكياجات وترقيعات شكلية للنظام القائم، وليس السيد رياض حجاب آخر أدوات تلك الخطة، بل يوجد الكثير منها في مناصب عدة هامة، ومنهم من يتحين الفرصة للانشقاق، ومنهم لم يقررالانشقاق بعد ولكنه أقرب إلى الانشقاق، وبأسئلة بسيطة نصل إلى الأخطر: من الذي دفع بالسيد حجاب إلى مناصبه وزكّاه من داخل جهاز الدولة؟ وكيف أمكن التنسيق معه حول الانشقاق؟ وماذا عن تشدق مجلس إسطنبول ووعوده بالمزيد من الانشقاقات والألغام؟؟
لا يمكن التعاطي مع هذه الأسئلة ببراءة طالما أن حجاب وغيره من المسؤولين الذين انشقوا والذين لم يفعلوا بعد لا يمتلكون أية ميزات مطلقة أومواهب فردية أو سمعة سياسية أو شعبية أو أي سمة محددة تدفع بهم إلى مناصبهم، لذا ترتدي تلك الأسئلة أهمية كبيرة ليس من أجل تقييم التجربة السابقة فقط بل من أجل غذ السير للوصول إلى حل الأزمة فعلياً..
بالعودة إلى المهمة الأساسية، مهمة الوصول إلى الحل الآمن للأزمة، ينبغي الإستفادة من كل دروس الانشقاقات السابقة والدرس الأخير الذي لم يختلف مضمونه كثيراً عما قبله، وذلك عبر دفع عناصر الحل السياسي الحقيقي في الدولة والمجتمع، القادرة على التعامل مع الأزمة بمستوى عمقها الحقيقي والقادرة على تقديم الحلول الحقيقية، وتتعسر تلك العملية مع بقاء الفساد الكبير جاثماً على صدر البلاد وجهاز الدولة، لذا فإن حل الأزمةمرتبط بالإطاحة بالفساد الكبير، المرشح الكبير «للانشقاق»...