جهاز الدولة.. وضياع البوصلة!
نشأ جهاز الدولة تاريخياً كأداة ملازمة للمجتمع الطبقي، فرضتها ضرورة إدارة مصالح الطبقات الاجتماعية المختلفة بطريقة تتناسب مع قواها النسبية في المجتمع، ولمّا كانت طبقة واحدة هي الأقوى عادةً بحكم امتلاكها لوسائل الإنتاج الاقتصادي، سواءً كانت هذه الطبقة أقلية عددية مستغلّة، كما في جميع التشكيلات الطبقية غير الاشتراكية، أو تمثل أكثرية المجتمع، في التشكيلة الطبقية الاشتراكية، فإنّها لن تستطيع الاستمرار في السيطرة الاقتصادية دون امتلاك زمام السيطرة السياسية عبر استخدام جملة أدوات تلجم بوساطتها بشكل مستمر مقاومة الطبقات الأخرى، أو تحصر قواها بمسارات واتجاهات تجعلها على الأقل حياديّة، إذا لم تستطع تسخيرها لخدمتها. سنحاول في هذه المادة البحث في المستجدات على جهاز الدولة في سورية، وما هي مصائره؟
جهاز الدولة هو هذه المنظومة من أدوات السيطرة الطبقية على المجتمع اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. وحتى يؤدّي جهاز الدولة وظيفته الطبقية التقليدية هذه، لا بدّ له أن يجمع بين جانبي الإدارة والقمع في آن معاً وبشكل مستمرّ ومنسّق، وهما جانبان متلازمان في التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية المستقرة نسبياً، لأنّه إذا فهمنا من القمع تحكّم الطبقة السائدة بالطبقات الخاضعة عبر فرض أساليب عسكرية مباشرة، كحجز الحرية، أو العنف الجسدي المباشر، وما إلى ذلك من عقوبات، فإنّها لا تستطيع أن تفرض القمع بمعناه الضيق هذا، إلا عبر تقديم مبرراته أمام المجتمع بكلّ طبقاته، الأمر الذي لا يمكن أن يتمّ إلا بأساليب وأدوات معنوية وتربوية وثقافية ونفسية، إضافةً إلى أساليب مادية تعويضية، وتنجح هذه الأساليب التي يمكن أن نقول إنها «الإدارة» في تبرير «القمع»، بقدر ما تستطيع التحكّم بالوعي الاجتماعي وتوليد القناعة والرضا بها منأكثرية المجتمع. ويتجلّى التلازم والتداخل بين مفهومي الإدارة والقمع، بأنّه حتى الإدارة بهذا المعنى تتضمن أيضاً شكلاً من القمع، لأنها تفرض مثلاً حدوداً وقيوداً في المجالات الفكرية والثقافية، وما يقال بشكل شائع حول «الشرطي داخل رؤوسنا» يعد مثالاً على ذلك. إذاً الإدارة تخدّم القمع، والقمع يخدّم الإدارة، ليتكاملا من أجل الحفاظ على الوظيفة الطبقية لجهاز الدولة.
النموذج السوري لجهاز الدولة.. ما الجديد؟
محددات النماذج تاريخياً:
يمكن أن نلاحظ من التجارب التاريخية لأجهزة الدولة بعض النماذج المميزة، التي تختلف عن بعضها حسب المرحلة التاريخية، وحالة الاستقرار أو التزعزع في التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، وميزان القوى النسبي بين الطبقات، والقوة المطلقة لكلّ طبقة. وسنتذكر هنا نموذجين من جهاز الدولة المتسم بما يعرف بـ «البونابارتية» بسبب علاقته بجهاز الدولة السورية حالياً:
أولاً، جهاز الدولة الفرنسية في عهد لويس بونابارت: إذ تميّز بحالة تساو بالقوة بين الطبقتين الرئيسيتين (البرجوازية والبروليتاريا)، مع كون كلّ من الطبقتين البرجوازية والعمالية في حالة قوّة، فالعمل والرأسمال نشيطان كقطبين لتحريك الآلة الصناعية الرأسمالية الصاعدة، و كانت مرحلة صعود حراك شعبي بعد الثورة البرجوازية الفرنسية 1789، مع استقرار نسبي للتشكيلة الاقتصادية الاجتماعية (الرأسمالية)، حيث ما زالت في حالة صعود.
ثانيا، جهاز الدولة السورية، منذ أوائل الستينيات من القرن العشرين، وتحديداً منذ الوحدة السورية المصرية: إذ تميّز بحالة تساوي بالقوة بين الطبقتين الرئيسيتين (البرجوازية والبروليتاريا)، لكن مع كون كلّ منهما في حالة ضعف بسبب حداثتهما، في نظام ثالثي أصبح أكثر تبعية اقتصادياً للغرب الرأسمالي بعد بدء تراجع الاتحاد السوفييتي، مع هبوط الحراك الشعبي وانحسار موجته مقارنةً مع مرحلة الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي.
أما الحالة الراهنة لجهاز الدولة السورية، وخاصة منذ السنين القليلة التي سبقت الأزمة: فتتميز باستمرار التساوي بالقوة تقريباً بين الطبقتين الرئيسيتين، واستمرار حالة الضعف لكل منهما، بين برجوازية مرتبطة بجزء كبير منها بالغرب الأقوى رأسمالياً، وبروليتاريا لم تتطور كفاية بسبب تراجع الاقتصاد عموماً، والصناعة خصوصاً، لكن الجديد أنّه أضيف لما سبق تزعزع حادّ للنظام الرأسمالي العالمي، وبالتالي المحلي المرتبط به، بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، مع بدء صعود الحراك الشعبي. وبالتالي انعكست الأزمة وظروفها المهيئة لها قبلاً على زيادة ضعف الطبقات الرئيسية المتناقضة وازدياد الاستقلال النسبي لجهاز الدولة السورية عن الطبقات المحلية، وأصبح جهازاً عاجزاً باتجاهين:
- عاجز عن تحقيق الغلبة لمصلحة الطبقة البرجوازية السورية لسببين:
1) لأنه مفصل على قياس توازن مزمن بحالة ضعف بين الطبقتين الرئيسيتين.
2) دخول التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الموافقة للبرجوازية (الرأسمالية) في أزمة عميقة تهزّ كلّ نظامها، ليست محلية فحسب، بل أزمة رأسمالية عالمية عامّة.
- عاجز عن تحقيق الغلبة لمصلحة الطبقة العاملة السورية والطبقات الوسطى أيضا لسببين:
1) لأنه مفصل على قياس توازن مزمن بحالة ضعف بين الطبقتين الرئيسيتين.
2) لمّا ينقلب تماماً بعد التوازن، لا المحلي ولا العالمي، لمصلحة الطبقة العاملة، رغم انزياحه بقوة لمصلحة الطبقة العاملة.
ولذلك يتميز أداء جهاز الدولة السوري في المرحلة الراهنة من الأزمة بأنّه يقوم بمهمة الحفاظ على حياته وبنيته ومصالحه التي هي أضيق حتى من مصالح أيّ من الطبقات المتناقضة داخل سورية، وكأنما يعتبر نفسه طبقة مستقلة بذاتها، وهو ليس كذلك في الحقيقة، وبالتالي فإنّ مهام الإدارة والقمع التي يمارسها، ولكونها موجّهة حصراً وفقط من أجل الحفاظ على مصالح هذا الجهاز تواجه معضلة كبيرة، تتمثل في أنّ النجاح في السيطرة بوساطة القمع والإدارة التقليديين وفق قانون جهاز الدولة الطبقي، يتحوّل إلى فشل ذريع وفلتان وحدوث نتائج مغايرة لأنّ القانون يعمل خارج شروطه الطبيعية، وجهاز الدولة بتفاقم عزلته عن المجتمع يفقد حتى قنوات التواصل الضرورية لأداء وظيفة الإدارة، التي تصبح مقتصرة بالنتيجة على «إدارة» أزمته هو عبر تدويرها وإدامتها بدل حلّها، وتعجز هذه الإدارة عن تبرير «القمع» بسبب عشوائيته، وانفصاله عن رؤية طبقية محددة. إنّه ليس قمعاً طبقياً، الأمر الذي وبدلاً من أن يجعله يكسب طبقة على حساب باقي الطبقات، فإنّه يستعدي جميع طبقات المجتمع. ولكن هذا لا يعني بأية حال، أنّ هذا التحليل للدور الراهن لجهاز الدولة السوري لا يخضع لقوانين الماركسية في الصراع الطبقي، بل يتفق معها تماماً، لكنه يأخذ بعين الاعتبار الظروف الملموسة الجديدة، فما زال جهاز الدولة حتى في هذه الحالة الخاصة يخدم مصالح طبقية، لكنها ليست واسعة محلياً، بل أنه بالفوضى التي يعززها، وبعدم حله للأزمة السورية الحلّ السياسي الشامل المتكامل، إنما يخدم الطغمة البرجوازية الكبرى العالمية، لأنّه سواء أدرك ذلك أم لم يدرك، يسهّل تنفيذ مخططاتها في «الفوضى الخلاقة».
مصير جهاز الدولة في سورية:
إنّ استمرار جهاز الدولة السوري بتركيبته ووظيفته الحالية مفتوح على الاحتمالات التالية:
- تدميره وبالتالي تفكيك سورية ككيان جغرافي سياسي.
- أو إعادة هيكلته تجميلياً بحيث تستعيد البرجوازية السورية الكبرى وفاسدوها داخل وخارج النظام سيطرتهم عليه وتوجيهه لخدمة مصالحهم، ولكن خصوصية المرحلة التاريخية، لكونها أزمة كبرى للرأسمالية مرشحة لأن تكون نهائية يجعل هذا المسار في التطور يقود إلى طريق مسدود.
- أو إعادة هيكلته بشكل جذري وحقيقي بحيث يخّدمعليه الطبقة العاملة السورية وحلفاؤها وتعزز دور سورية الوطني تاريخياً، وهو مسار يفتح التاريخ الباب أمام تطوّره من الناحية الموضوعية، لكن لا يمكن نقله من إمكانية إلى واقع إلا عبر توافر العامل الذاتي لدى أصحاب المصلحة في هذا المصير، وهم الأغلبية الساحقة من الشعب السوري، وقواه الوطنية الحية، من شعبية وسياسية.