الحركة الشعبية كمنظّم جديد
تتكشف عيوب تآكل جهاز الدولة أكثر فأكثر في كل مرحلة من مراحل الأزمة السورية، فالستار الذي كان يمنع مراقبة آلية عمل جهاز الدولة بدأ بالزوال التدريجي منذ بداية الأزمة عملياً، وأصبح مستوى انتقاد الجماهير الواسعة لأداء ذلك الجهاز أكبر بكثير، ليس من جانب جمهور المعارضة فقط، بل أيضا من جانب جمهور الموالاة، ولاسيما أن الأزمة أضافت ملفات جديدة تنتظر الحل على عاتق هذا جهاز فوق التركة السابقة من الملفات التي كانت قد أظهرت الأزمة على السطح..
يزداد مقدار التراجع في أداء جهاز الدولة مع استمرار التعامل الخاطئ مع الأزمة، فقد تم اختزال دور الدولة بالوظيفة العسكرية لها فقط، ركضاً وراء وهم «الحسم العسكري»، وضمرت الوظائف الأخرى لجهاز الدولة وعلى رأسها وظائف الإدارة والتنظيم، وكانت النتيجة أن أفرغت معظم «الإنتصارات» العسكرية من مضمونها بسبب عدم استكمالها سياسياً، وهذا بدوره رفع التكلفة على القوات المسلحة وحملها أوزار وأعباء أجزاء أخرى من جهاز الدولة، فليس بالضرورة أن يؤدي كل نصر عسكري إلى نصر سياسي، فبعض الإنتصارات العسكرية يمكن أن تكون هزائم حقيقية بالمعنى السياسي إن لم تثمر، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكثير من القوى المعادية لجهاز الدولة سواء كانت خارجية أو داخلية عمدت بشكل غير مباشر إلى دعم الحل الأمني من خلال استماتتها بإفشال كل المساعي السياسية لحل الأزمة وكل ما من شأنه تخفيض التكلفة على جهاز الدولة..
وكون المجتمع مثل الطبيعة لا يقبل الفراغ، تتدخل موضوعياً قوى جديدة لحل مهام الإدارة والتنظيم مع انسحاب الدولة منها، وصاحب المصلحة الأكبر في هذا المقام هو الحركة الشعبية بمعناها الواسع، أي تلك القوى الجديدة التي بدأت تنشط سياسياً منذ بداية الأحداث، والتي بدأت تنظم صفوفها باتجاه استلام مبادرة الحل وتفكيك الأزمة، التي كانت تختزن الخبرات في هذا السياق، وتبتدع أشكالا إبداعية لتسيير حياة الناس في ظل الظروف الصعبة التي فرضتها الأزمة..
مع ذلك لا يمكن الحديث عن الحركة الشعبية ككيان واحد متجانس، فهي قوى هائلة وفتية وصاعدة لكنها عمياء بالوقت نفسه وهي تمتلك عناصر التوتير مثلما تمتلك مفاتيح الحل، لذلك فإن التصدي لملفات صعبة كالأزمة الاقتصادية وضبط انفلات الأسعار، وأزمة إدارة المسائل القانونية والإدارية، وأزمة المهجرين والنقل، وأزمة توزيع المشتقات النفطية كالمازوت والغاز وأزمة انقطاع التيار الكهربائي..ألخ، لن يكون بإستطاعة العناصر المتخلفة داخل الحركة الشعبية، والتي تحاكي بسلوكها عقلية الفضاء السياسي القديم، لأنها ستعيد انتاج الأزمة وبوقت قياسي شأنها شأن الأجهزة المترهلة داخل الدولة، لذلك فإن حل هذه المهام سيكون برسم القوى المتطورة سياسياً داخل الحركة الشعبية،أما من يحدد تلك القوى فهو المقدرة على حل المهام الملقاة على عاتقها..
إن تولي الحركة الشعبية لمهام التنظيم والإدارة هو خطوة بإتجاه فرز قوى الحركة الشعبية، يتبين من خلالها العناصر التقدمية التي تصعد بالحركة الشعبية إلى مسرح الفعل السياسي والتحول إلى الفضاء السياسي الجديد، والعناصر الرجعية التي تعيق ذلك التحول..
يطال الفرز جميع القوى في جهاز الدولة والنظام والمعارضة والحركة الشعبية، من خلال القدرة على التصدي للمهام المباشرة الناجمة عن تفاعلات الأزمة، والتي أضحت بسبب تعقيدها تكثيفاً للمهام الوطنية والاقتصادية- الاجتماعية والديمقراطية، واختباراً أولياً لتحقيقها..