زراعة البؤس... مقدمات التطرف
باتت مسألة الريف من المسائل المحورية التي لايمكن تجاهلها عند مناقشة الأزمة الوطنية الكبرى التي نمر بها، درعا، إدلب، الحسكة، الرقة، دير الزور، محافظات لا بد للتاريخ يوماً أن يتحدث ويكتب عن دور أبنائها في مسار الأزمة وعنف الأحداث التي تشهدها سورية.
مؤشرات كثيرة أنبأت بما كان سيجري وما كان على صناع السياسة إلا قراءتها بشكل مبكر قبل أن ينغمس الريف في تمرده، لكن وخلافاً للخطاب السياسي لم تبد الدولة أي مساع جادة لمعالجة واقع الريف المتردي.
لقد شهدت الأراضي القابلة للزراعة (بعل ومروي) تراجعاً ملحوظاً في مساحاتها عبر العقود الاربعة الماضية، فبعد أن كانت تشكل نسبة 81.4% من مجمل الأراضي السورية إنحسرت لتصبح نسبتها 75.8% (عن إحصاءات 1960 و2010)، وضمن السياق ذاته انخفضت مساحة الأراضي القابلة للزراعة المروية من 33.4% إلى 25.4%، محققة بذلك خسارة تجاوزت نحو 20% من النشاط الزراعي.
أما أراضي المحاصيل الدائمة والزراعات المروية بمختلف أشكال الري فلم تشهد أي تقدم خلال العقد الأخير وحافظت على نسبة 23% من الأراضي الزراعية القابلة للري التي تصل مساحتها اليوم إلى 6045 الف هكتار، أي ما يعادل 12.2% من الأراضي الزراعية التي تصل مساحتها إلى 14839 ألف هكتار من أصل الأراضي السورية البالغ مساحتها 18515 ألف هكتار.
وما سجل من تقدم في مساحة أراضي المحاصيل الدائمة (زيتون، فاكهة وحمضيات، لوز، فستق...) التي لم ينئ إنتاجها من التراجع، كان إقتطاع من مساحات الزراعات المروية التي اكتسبت لفترة طويلة صفة الزراعات الاستراتيجية (القطن، الشوندر، القمح..).
يمكننا فهم هذا التردي من حجم تقنيات العمل الزراعي الذي لم ير التطور منذ زمن، فعدد الجرارات الزراعية على سبيل المثال لم يتغير بشكل محسوس خلال العقدين الأخيرين، وحتى عام 2010 لم يتجاوز العدد 215 جراراً لكل 100 كم2، وهو عدد تجاوزته كوبا عام 1978، الضفة الغربية عام 1979، مصر عام 1985، الأردن عام 1990، لبنان عام 1993 وماليزيا عام 1994، في حين تجاوزته «إسرائيل» منذ عام 1960 ويكاد يصل عندها اليوم إلى 900 جراراً لكل 100 كم2.
بالتوازي مع تراجع المساحات المزروعة يلاحظ تراجع في مساحة الحراج وعدد الغراس، ففي عام 1990 بلغت مساحة الحراج الاصطناعية 27 ألف هكتار وبلغ عدد الغراس 28888 ألف غرسة لتصبح 9.3 ألف هكتار و9662 غرسة عام 2010.
ورغم ما نشهده من صعود وهبوط لمساحة المحاصيل الزراعية والناتج الزراعي، فإن مؤشر ناتج قطاع الزراعة مقارنة مع إجمالي القطاعات يبقى المؤشر الأمثل لتقييم الواقع الزراعي، فقد تراجعت نسبته من 29% إلى 16% خلال الفترة الممتدة بين عام 1970 وعام 2010، تراجع يستحق أن يطلق من أجله ناقوص خطر السياسات الزراعية التي اعتمدت خلال العقود الماضية، ويدعو إلى مراجعة جادة وإعادة نظر لمجمل السياسات الاقتصادية التي تخلت تحت غطاء الانفتاح والتحديث عن القضايا الوطنية المحورية التي شكلت الأرض والزراعة أحد محاورها. لكن شيئاً كهذا لم يحدث، واستمرت سياسات تهميش المحافظات الزراعية واستمر الاستخفاف بقيمة الأرض وعطائها، مما دفع القسم الأكبر من قوة العمل الزراعية إلى هجرة الأرض والتوجه نحو المدن للعمل في حرف البناء والخدمات والنقل.
على المستوى الوطني تناقصت نسبة عدد سكان الريف على امتداد الفترة 1960-2010 من 63% إلى 44% من إجمالي عدد السكان في سورية، تناقصاً ترافق مع انخفاض في حجم قوة العمل الزراعي على المستوى الوطني من 30.6% إلى 14.3%.
أما على مستوى الريف فلم تعد قوة العمل تشكل بشكلها العام سوى 38.5%، مع تراجع ملحوظ في عدد العاملين في الزراعة الميدانية الذين لم يتجاوزوا 742 ألفاً عام 2010 أي ثلث قوة العمل الزراعي، في حين توجه الثلثان إلى المدن والمدن الكبرى (حلب، دمشق، حمص...) ليعملوا في مجال البناء والنقل والخدمات... سياسات الإفقار هذه تُرجمت اجتماعياً واقتصادياً بارتفاع نسبة الإعالة في محافظات حلب، إدلب، الحسكة، دير الزور، الرقة، درعا والقنيطرة بوسطي 4.8 وزيادة نحو 35% عن وسطي باقي المحافظات (للمقارنة: دير الزور 5.5 وطرطوس 3.2).
هذا التفسخ في قوة العمل الزراعي ترافق مع انحسار كبير في مساهمة المرأة الريفية العاملة، ذلك أن حصة مشاركتها في الزراعة عام 2010 لم تتجاوز 23% من نسبة إجمالي قوة عمل المرأة في حين بلغت هذه نسبة 60% عام 2000.
يحلل هذا الإنحسار وفق عاملين، الأول ويتمثل بالتراجع العام لدور المرأة التي انكفأت واكتفت بالتدبير المنزلي الذي شكل عام 2010 نسبة 60% من اهتماماتها، أما العامل الثاني فتمثل بتوجه عدد من النساء نحو قطاع الخدمات والخدمات الخاصة والمجتمعية كنتيجة لتردي أوضاع المجتمع الريفي وتردي أحوال الاقتصاد الزراعي، فقد بلغت نسبة نساء الأرياف العاملات في قطاع الخدمات 39% مقابل 46% في قطاع الأعمال الزراعية.
لماذا قطاع الخدمات والخدمات الخاصة والمجتمعية؟ لإنه المجال الأوسع لتشغيل المرأة التي لا تملك من المستوى التعليمي إلا حده الأدنى هذا إن ملكته، غير أن هذه الإعاقة ليست خاصة بالنساء بل حالة المجتمع السوري بشكل عام والريفي منه بشكل خاص، فحصة الريف من الأمية عالية جداً وقد بلغت ذروتها لدى العاملين في الزراعة حيث وصلت إلى نسبة 39% في دير الزور و32% في الرقة و27% في حلب، مع تباين كبير في المعدل بين الرجال والنساء تجاوز الضعف، ومن محافظة لأخرى حيث قاربت الأمية لدى النساء النسبة 50% في كل من الرقة، دير الزور، بينما لم تتجاوز 5% في كل من السويداء، طرطوس، الحسكة، وريف دمشق.
هل هو عيب اجتماعي أو سوء سياسات؟ في واقع الأمر هو محصل للسياسات التعليمية والتربوية المعتمدة وتحديداً في المحافظات الشمالية، حيث انعكاساتها على المستوى الثقافي والمعرفي في الريف الذي تباين بجميع مؤشراته بين محافظة وأخرى، تبايناً يترجم لب السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة والتي انصبت آثارها الكارثية على الفقراء والطبقة العاملة بشكل عام وعلى المجتمع الفلاحي بشكل خاص. فنسبة قوة العمل المؤهلة تأهيل ما بعد الثانوية (معاهذ أو جامعات) لم تتجاوز في كل من ريف دمشق، حلب، حماة، إدلب، الحسكة، دير الزور، الرقة بالتسلسل النسب: 14.2، 12.2، 15.3 14.5، 15.1، 17، 9.7%، بينما نجد نسب تكاد تصل إلى الضعف في دمشق، حمص، اللاذقية، طرطوس (23.7، 19.8، 23.8، 31.3%) أما درعا والسويداء والقنيطرة ونتيجة قربها من العاصمة فنجدها تحقق النسب التالية (17.9، 23.1، 24.9%).
غيض من فيض ما أنتجته سياسات التهميش والتحرر الإقتصادي وتوجه سياسات الدولة ومصارفها الحكومية نحو تمويل وتشجيع مشاريع إستثمارية عديمة الجذور، ولا يكفي أنها تجاهلت القطاع الزراعي بل عملت على تخريبه، تراجع في إنتاج الخضار والقمح والبقول والقطن، إنحسار لمساحات المحاصيل الصناعية من قطن وشوندر سكري، قتل للأشجار المثمرة من زيتون وعنب وفاكهة، تقلص في عدد الأغنام مع إهمال في تطوير المراعي...
بالأمس كانت ثمار وخضراوات كفرسوسة وداريا ودوما وجديدة واليوم عدد العاملين في الزراعة الميدانية في ريف دمشق لا يتجاوز 3.8% من مجمل قوتها العاملة.
قبل الأمس قتل قابيل هابيل لأنه رأى في الأرض ما هو أعظم من أبكار الغنم وسمانها واليوم ولأن البعض سخر من أرضه وحرمه من خيراتها يقف قايبل كالمجنون في وجه مجتمعه الذي استسلم عقوداً لسياسات اقتصادية واجتماعية لم تحمل لأرضه غير البؤس والعدمية. إنها قضية مجتمع عاش ابناؤه في ظل سياسات التهميش والإملاءات ولمعالجة قضيته المركزية المتمثلة بالوجود والكرامة والعمل لا بد من العودة بهذه القضية إلى جذورها الطبقية.