هل فات أوان الإمساك بخيوط الفوضى؟
أمام موجة العنف الأخيرة التي تعصف بالبلاد بشكل متصاعد منذ أسبوعين، لعلّ الأهم من التوقف عند التفاصيل الميدانية، وخاصة في المدن الرئيسية والعاصمة
والأهم من إدانتها وإهراق الحبر واللعاب عليها هو تذكّر أنّ مغزاها وهدفها السياسي يصب مباشرةً في أهداف العدو الأمريكي-الصهيوني وأدواته الرجعية السورية والعربية في إحداث نقلة في التصعيد العسكري المتزامن مع تصعيد سياسي لخلق أعسر الظروف لولادة الجديد بعد أن تبين للمجرمين أنّ إجهاضه بات أمراً مستحيلاً، في ظل التوازنات الدولية والإقليمية الحالية، والآن يحاولون جهدهم ليولد مشوّهاً قدر الإمكان.. فولادة سورية الجديدة مشوّهة تعني ولادتها مريضة وعاجزة، تعني ولادتها أشلاء لتموت سريعاً أو بعاهات دائمة تقيدها بكرسي ذي عجلات أمريكية.
اختراقات هامة على جبهة العمل السياسي، وعلى جبهة النضال من أجل الحل السلمي تمّ إنجازها، ولاسيما جهود المعارضة الوطنية السلمية السورية، ومبادراتها الوطنية نحو الحلّ السلمي والحوار، وصلاتها الشعبية.. من لا يستطيع أن يفسّر كلّ التصعيد السياسي والميداني والإرهابي الذي يجري، منذ أسبوعين على الأخص، على أنّه سكرات الموت والشهقات الأخيرة لعنف الحرب، لن يستطيع أن يخرج سوى بمشاعر الاكتئاب والتشويش، والضياع. لن يستطيع أن يرى الصورة في كليتها، في شمولية المنحى العام لتطور الأزمة نحو نهايات سياسية وسلمية تحمل كموناً إيجابياً بتغيير نحو الأفضل, لن يستطيع أن يتزود بالتفاؤل الواقعي ليستطيع أن يكون فاعلاً في المقاومة ولا الهجوم لنزع الألغام السياسية المراد زرعها تحت أتربة «الديمقراطية» الأمريكية الغربية التفتيتية بذوراً لعنف السِّلم، لعنف القمع المستقبلي للشعب، القمع السياسي والاقتصادي- الاجتماعي ولكنّ «الديمقراطي»!.. عبر تطبيق العزل الانفرادي عليه، وزجّه في سجون الكانتونات المهندس والمخطط لها في تفاصيل المشروع الامبريالي، والمجهز لها سابقاً عبر سياسات الانفتاح النيوليبرالي و«اقتصاد السوق الاجتماعي»، الذي تبيّن لنا بعد الأزمة أن له صفة مخفية لطالما كانت ملازمة له، وكشفت عن نفسها اليوم، فهو «اقتصاد السوق الاجتماعي التفتيتي»، والبديل الوهمي عن التغيير الحقيقي والجذري.
ربما يتوقف البعض عن الاستمرار في قراءة هذه المادة، تحت وطأة التشاؤم أو الحزن الذي تسبب لهم به من يهدف بالضبط إلى إيصالهم إلى هذه المرحلة. من يريد أن يشلّ قدرتهم على التفكير العاقل، من يريد أن يحوّلهم إلى قطعان من غرائز وأصحاب ثأر شخصي أو طائفي أو قومي أو عشائري.. هائمين على وجوههم في وطنٍ باتوا يشعرون أنه أمسى غابة وحوش ورعب.. شعورٌ يعززه بؤس بعض الإعلام السوري وغير السوري على حدٍ سواء، وفشل الرؤوس المتحجرة في أجهزة الدولة ومؤسساتها وبعض القوى السياسية الموزعة بين نظام ومعارضة في أن تستوعب خطورة استمراء الكذب على نفسها وعلى الناس بأوهام الانتصار العسكري والسحق والمحق والتطهير والتحرير.. تلك الخرافات التي دفع الشعب السوري بمدنييه وعسكرييه، بسلمييه ومسلحيه، وما يزال يدفع، دماً وفقراً وتهجيراً ودماراً ودموعاً لا تنتهي.
لعلّ أفضل ما يفعله المتشدّقون باسم حماية الجيش العربي السوري، عبر «دعمه» بميليشيات مسلحة، لم تبرهن التجربة سوى على سوء سلوكها وأخلاقها، وطعنها للجيش نفسه في الظهر، هو أن يغلقوا أفواههم ويكفوا عن المشاركة في قتل الجيش مرتين. ولعلّ أفضل ما يفعله المتشدّقون باسم حماية الشعب من عنف أجهزة الدولة عبر «إنقاذه» بإشعال مزيد من النار حوله وفيه، أيضاً عبر ميليشيات مسلحة، لم تثبت أنها أفضل من الأولى بشيء، هو أيضاً أن يغلقوا أفواههم ويكفوا عن المشاركة في قتل الشعب مرتين.
لكنّ ما يبعث الأمل بإمكانية قطع دابر الفوضى في سورية اليوم، هو أنّ التجربة تزيدنا كسوريين اقتناعاً يوماً بعد آخر بضرورة أن نوقف عنف بعضنا ضدّ بعض، وضرورة بدء الحوار السياسي الجدي، للخروج بحلّ آمن وشامل وحقيقي، حدّه الأدنى قضيتان أساسيتان تجمعان بين جميع أبناء الشعب السوري اليوم، هما الموقف المعادي للمحتلّ الإسرائيلي، وإرادة تحرير الأراضي المحتلة من رجسه. والموقف المعادي لمنظومة الفساد الكبير والنهب الداخلي لمقدرات البلد وخيراته، وأدوات هذه المنظومة البشرية والمادية، سواءً السابقة منها أو الحالية أو المستقبلية. وهاتان القضيتان إنما تمثّلان جوهر مقولة بقاء سورية موحدّة أرضاً وشعباً.