أجمل الأيام.. تلك التي لم تأتِ بعد

أجمل الأيام.. تلك التي لم تأتِ بعد

قد يعتقد كثير من السوريين تحت ضغط الأزمة، وتعقيداتها الأمنية والمعيشية التي تحشرهم في عنق زجاجة، أنّ أي حديثٍ متفائل عن مستقبل أجمل سيأتي، هو إما ضربٌ من سخرية مرّة، 

عبر سوق المعنى المباشر للوصف كي يناقض ظواهر الواقع الموصوف. أو أنه نوعٌ من عزاءٍ بائس يمنّي النفسَ به واهنٌ خارت قواه من كثرة النوائب، فجعل يقبض رياحاً يقنع نفسه بأنها حبالُ نجاة. فهل حقاً تقطّعت السبل إلى حلّ الأزمة؟ وهل ثمّة أمورٌ تبعث أملاً وتفاؤلاً واقعياً بأن تبقى بلدنا ونحيا فيها غداً أفضل؟

 يعرف الناس عموماً بأنّ الظلم المتراكم عندما يصل إلى درجة محددة يولّد النقمة ويدفع المظلومين إلى الانتفاض من أجل رفعه، لكن هذا المبدأ العام على بساطته الظاهرة، يحمل تعقيداً يتعلق بشروط عمل هذا القانون الاجتماعي التاريخي، ويحتاج الأمر إلى معرفة علمية أعمق بقوانين الثورة الاجتماعية، وشروطها، بما في ذلك معرفة الشروط الموضوعية والذاتية لنجاحها، وكيف ترسم أهدافها وما هي وسائلها الأكثر فائدة حسب الحالة الملموسة، وما هي مراحلها..

فعندما تكون في مرحلة الحراك الشعبي العفوي، ويتم إيهام الجماهير بأنها ثورة منتصرة غداً، وهي لم تمرّ بعد بالنضج الكافي لتنظم صفوفها وتفرز حركتها السياسية الأعلى ثمّ تتحول إلى حركة ثورية قوية، يكون متوقعاً بالنسبة لمن يملكون معرفة علمية صحيحة، بأنّها كحركة شعبية عفوية ما يزال أمامها طريق ضروري من التجارب ومراحل التطور التي لا بد منها، وأنها ستمر بإخفاقات ومخاضات عسيرة، فيظل قادراً على فهم الإخفاقات والتراجعات، ومعرفة أسبابها، ويستطيع أن يتوقع السبل والأخطاء التي قد تؤدي بالحركة الشعبية إلى جهنم، عندما ترتكبها عن جهل ولو بحسن نية، فيستطيع أن يبقى متفائلاً، طالما يعرف أنّ الظرف الموضوعي للواقع يسير قدماً باتجاه تغيير تقدّمي نحو الأفضل، في حين أنه من الطبيعي بالمقابل أن كثيراً من الذين لا يملكون هذه المنصة المعرفية، حتى وإن كانوا من أكثر الناشطين حماسة، أو المناضلين بأساً، سيصابون بإحباط ويأس كلما اصطدموا بنتائج غير مرغوبة أو واجهوا إخفاقات، في أوقات كانوا يتوقعون فيها انتصارات ساحقة، ولا سيما عندما يفلح أعداؤهم - بعد أن يوهموهم بأنهم أصدقاؤهم - في تضليلهم، ووعدهم بنصر قريب، فتكون النتيجة تأثيراً مدمراً على نفسية تلك النواة الشعبية لثورة قادمة حقاً، تمّ استهدافها عن عمد من أجل إجهاضها في مهدها، وحرقها بسرعة لا تتناسب مع درجة نضجها.

على الصعيد الدولي العام نتحدث هنا عن المعرفة العلمية بسمة المرحلة التاريخية الحالية بوصفها مرحلة انفتاح الأفق أمام نجاح وتقدم حركات الشعوب والقوى التقدمية والثورية عبر العالم الذي نضجت فيه الظروف الموضوعية لسقوط النظام الرأسمالي العالمي المأزوم وقواه الاستغلالية المعادية للشعوب سقطةً نهائية. وعلى الصعيد المحلي نتحدث عن الحراك الشعبي السوري بمعناه الأوسع وعن تجربته وما تم توريطه به من تسلح وطائفية، استخدمت لإجهاضه، سواءً من داخله أو ضدّه، أي من قوى الفساد في الدولة نفسها، وفي المعارضة، وفي المجتمع.

وإن أردنا تلمس دواعي التفاؤل الذي نتحدث عنه، لوجدنا بعضها في التطورات الأخيرة:

- سياسياً: ارتفاع الأصوات المنادية بالحوار والحل السياسي السلمي سبيلاً وحيداً للخروج من الأزمة، وذلك من أطراف في النظام وفي المعارضة كانت أكثر تشدداً فيما مضى. كما وبدأت تزداد الانقسامات والخلافات في صفوف المعسكر الغربي-الأمريكي المعادي للشعب السوري وفي أدواته من المعارضة اللاوطنية المصنعة من قبله لتنفيذ مشاريعه والتي يعبّر تغير خطابها السياسي وتقلّب سلوكها عن تخبّط وتراجع ذلك المعسكر إلى موقع أضعف، يخضع لتناسب القوى العالمي الجديد، بعد مرحلة المكابرة في إنكاره، والتهرب من الاستحقاقات العملية الملازمة للاعتراف به.

عسكرياً: تحول الاستعصاء المستمر لإمكانية كسر العظم بين الأطراف المتشددة بالسلاح عبر معارك الاقتتال الداخلي، إلى فشل وهزائم لكلا الطرفين المتشددين معاً بالمعنى الاستراتيجي، بحيث أن ما تبقى من العنف وحتى لو جرى تصعيده بين الحين والآخر، فهو ليس إلا تكتيكاً لكسب أوراق على طاولة التفاوض المحتومة، وهذا الأمر على سوئه فإنّه يدعو الوطنيين وأبناء الشعب المسالم إلى التفاؤل، لأن هذا العنف يعرّي أكثر تكل القوى التي تعرف أنّها فاسدة ومتطرفة لدرجة أنها لا تستطيع أن تكسب شعبية بطرق سلمية.

بالمقابل يأتي التطور الأخير في العدوان الصهيوني الإجرامي على منشأة وطنية علمية-عسكرية في «جمرايا» بريف دمشق، عبر قصفها من طيران الاحتلال، رغم أنه حدث يجعلنا نأسف ونستنكر تمكّن العدو من انتهاك سيادتنا الوطنية بهذه الوقاحة، ويؤكّد ما حذّرنا منه مراراً من أنّ زجّ الجيش العربي السوري وتوريطه في معركة داخلية تستنزفه ستكون له آثاره ونتائجه على استعداده المادي والمعنوي للأداء الأمثل لمهمته الوطنية الأساسية في الدفاع عن الوطن والشعب ضدّ العدو الأساسي. إلا أنّه يعتبر من جهة أخرى، من ناحية توقيته، تحولاً هاماً يدلّ على أنّ مجرّد التقدم باتجاه الحل السياسي، قبل أن يبدأ فعلياً، جعل «إسرائيل» تتدخل سريعاً بشكل مباشر، الأمر الذي يعبر عن ذعرها من الإمكانية الكبيرة لاقتراب حلّ سياسي وطني، يكون فيه بقاء لسورية موحدة وخروجها من أزمتها إلى مستقبل أفضل، وبالتالي أسوأ بالنسبة لعدوها التاريخي. أفلا يدعو هذا إلى التفاؤل أيضاً؟

إنّه يدعو إلى التفاؤل لأنه أيضاً يعيد القضية الوطنية، وقضية تحرير الأراضي المحتلة، إلى الواجهة، وبقوة، تلك البوصلة التي لا غنى عنها في فرز جميع القوى السياسية، فامتحان القضية الوطنية، وبناءً على ردود فعل تلك القوى إزاءها، لا بدّ أن تؤدي إلى إعادة النظر في كثير من «الشعبية»، التي ربما تكون قد اكتسبت مؤقتاً، بسبب ما ذرّه دخان الحرائق الداخلية من رماد في العيون.

لكنّ بصيرة القوى الشعبية الحقيقية، والجوهر الوطني للحراك الشعبي الذي انتفض لكرامته ولقمته، لن يطول بها الوقت حتى تجد طريقها إلى إنضاج مقاومة شعبية شاملة واسعة، وعابرة للاصطفافات الوهمية والمؤقتة، توحد قواها وتستخدم أدوات نضالها الوطني في مكانه الصحيح، السلمي منه في المعركة السياسية الداخلية ضد قوى الفساد والقمع، والمسلح الذي لا بد أن تكون وجهته نحو العدو الصهيوني والأدوات الأخرى للإمبريالية، ضمن مقولة المرحلة الراهنة بأنّه «إذا كان للأنظمة ضروراتها، فإنّ للشعوب خياراتها!». ورغم نومنا الطويل وكوابيسنا المزعجة فثمّة الكثير مما يدعو إلى التفاؤل بأننا سنصبح يوماً على وطنٍ أجمل.