السياسة بين الوهم والواقع
جبران الجابر جبران الجابر

السياسة بين الوهم والواقع

تطالع المرء آراء وأفكار تتناول المستقبل القريب الذي يرتبط بتشكيل الوزارة الجديدة والتي كلف الدكتور حجاب برئاستها، وتنخرط في قوام هذه الوزارة أحزاب إلى جانب حزب البعث بما فيها أحزاب الجبهة وجبهة التغيير والتحرير التي في موقعها المعارض تتقاطع مع النظام في بعض التوجهات، وخاصة الموقف من الإمبريالية الأمريكية، والموقف من المعارضة الداعية إلى التدخل الخارجي لحل الأزمة السورية وغيرها.

طبيعي أن الوضع المتكون في ظروف استمرار الأزمة وتصاعدها اجتماعياً وسياسياً قتالياً يفرض على تلك الأحزاب أن تبين ما في جعبتها من آراء جعلتها تبحث في الوزارة القادمة وتنتهي إلى قرار المشاركة. ويلاحظ أن ذلك يشمل أحزاب الجبهة بهذا الشكل أو ذاك وحتى قوى النظام وفي مقدمتها قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي.

ولم يعد سراً أن أهم ما يتصدر تلك الجهود يبرز نقاطاً هامة ومنها موضوعة المصالحة الوطنية يضاف إلى ذلك القضاء على مراكز الفساد ثم التنمية الاقتصادية بكل متطلباتها المتعلقة بالتوجهات الاقتصادية التي من أهمها إصلاح شأن قطاع الدولة والابتعاد عن السياسات والتدابير الاقتصادية الليبرالية.

إلا أن ما هو معروف في الفكر السياسي العلمي أن الظواهر ليست في حالة انفصال، إنها في حالة ترابط، ويجد المرء نفسه معنياً أن يفرز بين الأوهام وما ينتجه الواقع، نكرر أن السياسة علماً وذلك يحدد المساحات التكتيكية التي يعبر عنها بفن إدارة المشكلات وطرائق تدويرها، وما دامت السياسة علم، فإن تحليل الواقع الراهن يصبح ضرورة للوصول إلى تحديد الممكن من جهة والتخوم التي تفصله عن الأوهام.

إن الموضوعة الأولى المطروحة هي المصالحة الوطنية فكيف ستكون تلك المصالحة وما هي طبيعتها وعمقها مادام الواقع يشير إلى استمرار تأمين متطلبات «الحسم والنصر».

إن متابعة استراتيجية «الحسم والنصر» من الطرفين، السلطة والمعارضة لن يؤدي إلى مصالحة وطنية حقيقية، إنه في أفضل الأحوال سيكون تسوية بين منتصر ومنهزم، ولن توفر تلك الوضعية مقومات المصالحة الوطنية التي ستقوم في ضوء «الحسم والنصر» على علاقات مع قوى هامشية تغرق في مصالحها الخاصة ولن يكون لها تأثير فاعل على الصعيد الجماهيري، وتتضمن تلك المصالح الهشة استمرار العوامل الموضوعية والذاتية للأزمة التي قد تتخذ أشكالاً أخرى في مرحلة محددة لكنها تضع الوطن في حالة كمون انفجار جديد، قد يكون أكثر حدة.

إن المصالحة الوطنية الفعلية لا تستقيم أمورها بالانطلاق من منتصر ومنهزم، وقد دلت دروس التاريخ أن تلك الحالة الوطنية التي تعقب تلك المصالحة، ستكون مرحلة إنتاج النظام لذاته من جديد.

إن التوجهات والممارسات السياسية التي لم تعد سراً ولم يعد بالإمكان حجب أبعادها وجوهرها لا توفر الأسس الموضوعية لمصالحة وطنية فاعلية تلعب دورها الحقيقي في رأب الصدوع الاجتماعية، ولن تخرج تلك المصالحة عن نطاق إضافة ديكورية لاستمرار المرتكزات الأساسية المعروفة للنظام بما فيها موضوعة الحزب القائد واعتماد أكثر فأكثر على الأجهزة الأمنية وتأمين نطاق عسكري أساسي لحماية النظام وصيانة استمراره والتي تتحول إلى هاجس أعظم من ذي قبل ويفرض الكثير من التدابير.

إن مصالحة وطنية حقيقية وشاملة تتطلب الحريات الديمقراطية وتأمين الانتخابات النزيهة والشفافة وهو ما يتعارض مع السياسات المستمرة والمعبر عنها بالوقائع الملموسة بما فيها تكوين الوزارة والانتخابات على مختلف تسميتها إن الوهم كبير عندما يجري تجاوز لتلك الوقائع، والمسألة ليست مسألة تجريب جهد هذا أو ذاك، وهي ليست مسألة إرادية، إن تعقيدات الوضع والأزمة تفوق طاقة أية وزارة مجتمعة، وكان استحداث وزارة المصالحة الوطنية ، ولا يمكن لاستمرار العلاقات السياسية الراهنة حل الأزمة ومعالجتها، وهو ما يتعارض مع الهدف الأساس السياسي الاستراتيجي المتمثل بإعادة إنتاج النظام لذاته بالاستناد إلى مرتكزاته المعروفة والتي لا يجوز المساس بها مطلقاً.

 إن المصالحة الوطنية المعتمدة على «الحسم والنصر» لن توفر فاعلية وطنية سياسية قائمة على القناعة ولا يمكن الشروع فعلياً بالمصالحة الوطنية الحقيقية إلا بإيقاف العنف وإنهاء المعارك وغيرها من التدابير وهو ما يتعارض كلياً مع استراتيجية «الحسم والنصر» المعتمدة من النظام والمعارضة والتي مازالت تشكل العمود الفقري لمعالجة الأزمة عند كليهما.

أما المعضلة الأخرى فهي الفساد وتفرغاته، وهو معضلة لأن الفساد ليس نزعة ذاتية معزولة عن الضرورات السياسية، وهو ليس حالة طارئة، وهو عامل لإعادة إنتاج النظام لذاته، فهل الوزارة القادمة قادرة على إنتاج نظام جديد حيث تأخذ الحريات الديمقراطية مداها، وحيث إنتاج النظام يعتمد على تحقيق إرادة الشعب في اختيار ممثليه عبر الانتخابات.

إن المرتكزات السياسية التي يجري اعتمادها حتى الآن تضخ بوضوح المفارقة البالغة بين إعادة إنتاج النظام في ضوء تلك المرتكزات من جهة ومحاربة الفساد من جهة أخرى.

إن الرغبات والأوهام تفصل الظواهر المترابطة. وقد أكدت الحياة ما هو أكثر قسوة حيث إن التوجه الذي يطوق الفساد ويحاصره ويفضحه هو كامن في العلاقات السياسية التي شكلت الخلفية العميقة للأزمة السورية، ولعله من البدهي القول إن العلاقات السياسية التي شكلت أهم أسس الفساد هي التي تشكل مرتكز الصراع الراهن في سورية، وأن استراتيجية «الحسم والنصر» وضعت لاستمرار جوهر العلاقات المعروفة وتخدم مصالح لم تعد مجهولة وتلك المصالح لا تقتصر على الفساد بالمعنى السائد بل تشمل أيضاً الامتيازات السياسية والاتجار السياسي الذي أصبح إعادة إنتاجه مرادفاً لاستمرار الفساد وانتشاره، ذلك هو منطق ترابط الظواهر، وعندما يكون المرء جاداً في محاربة ظاهرة الفساد فإنه لابد أن يتوقف عند ضرورة علاقات سياسية جديدة وليس من دليل استراتيجي على أن الإجراءات والمؤشرات السياسية ترمي إلى ذلك.

إن محاربة الفساد تتطلب الحريات الديمقراطية والشفافية الاقتصادية ووجود معارضة خارج الوزارة.

إن الجمر الاجتماعي شيء وجمر الحطب شيء أخر، وإن استراتيجية «الحسم والنصر» وتداعياتها وترابطاتها وما يناسبها ويلائمها من علاقات سياسية لا تشكل الأساس الموضوعي لمحاربة الفساد كما أنها لن تبعد الاقتصاد عن علله وأمراضه ناهيك عن بدهية هي أن أية معارضة تغرق في مسائل مهام الحكومة تفقد خاصية المعارضة، فالوزارة ليست مجلس شعب، إنها أعصاب السلطة التنفيذية وعندما لا توافق أية جهة على التوجهات وقرارات مجلس  الوزراء فأمامها سبيل وحيد هو الاستقالة وإذا ما أخذ ذلك بجدية وبصورة فعلية فإن عمر هذه الوزارة سيكون قصيراً جداً.