هل ما نزال معارضة؟؟

هل ما نزال معارضة؟؟

يعاني مفهوم المعارضة في الظرف السوري كثيراً من التشويه والمغالطة، ويعود ذلك إلى خصوصيته، فإذا كان للمعارضة بمفهومها العام دور أساسي في تقويم سياسات الأكثرية النيابية، فإن سورية لا تملك أكثرية وأقلية نيابية بالمعنى الحقيقي للكلمة، وتصبح المعارضة لذلك السبب حالة من خارج أطر جهاز الدولة ومن خارج الأطر التشريعية، وهذه الحال استمرت طوال العقود الماضية وطبعت المعارضة بطابعها. وأصبح أي اقتراب من جهاز الدولة هو بمثابة خيانة لقضية المعارضة، وهو أمر يحمل الشيء الكثير من الصحة لأنه إضافة للسبب الذي ذكرناه سابقاً فإن شعور الناس تجاه جهاز الدولة الرأسمالي -ودولتنا هي دولة رأسمالية- هو شعور بالبغض والخوف كونها تدافع عن الفاسدين ولا تحاسبهم في حين تنكل بالمناضلين السياسيين وتسومهم شتى أنواع العذاب والاعتقال..

دخلنا في الأزمة وظهرت معارضة من نوع خاص متمثلة بمجلس اسطنبول، تحمل الصفة التاريخية بالابتعاد عن جهاز الدولة، شكلياً فقط، لأن جزءاً مهماً من أعضاء المجلس هم مسؤولون سابقون، ولكنها في المقابل تحمل برنامجاً ليس خارج جهاز الدولة فحسب بل وأيضاً خارج الدولة السورية كلها وضد مصالح شعبها، من تدخل خارجي وخطاب طائفي وبرنامج اقتصادي ليبرالي..

تعقدت الأزمة السورية نتيجة تطرف النظام في حلوله الأمنية البحتة التي تخدم الاختراقات الموجودة ضمنه من جهة، ونتيجة تطرف «معارضته» الاسطنبولية بخطابها الداعي للتدخل الخارجي بحجة الدم، وجرت محاولات مستميتة من الطرفين لإجبار الشعب السوري على الاصطفاف ضمن ثنائية (نظام- مجلس اسطنبول)، ولهذه الغاية تم تهميش هيئة التنسيق واستجلاب كثير من قياداتها إلى مواقع قريبة من مجلس اسطنبول، وتم اعتبار الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير معارضة مصنعة من  النظام..

تعقدت الأزمة أكثر، وبدأ الشعب يفقد ثقته بالطرفين الأقصويين ويختط طريقه الخاص، الأمر الذي سمته «الإرادة الشعبية» منذ البداية بل ومن عام 2004 بكسر الثنائية الوهمية، ووعت أن تحطيم الثنائية الوهمية لا يعني الخروج من التناقضات بل الخروج من التناقضات الوهمية نحو التناقضات الحقيقية، بمعنى اصطفاف أغلبية الشعب السوري المسحوقة في وجه الأقلية الناهبة الفاسدة الموجودة في الطرفين الأقصويين، الأمر الذي يتطلب توجيه الخطاب للمنهوبين أينما وجدوا، أكانوا تحت اسم «معارض» أو تحت اسم «موالي»، ويتطلب ذلك العمل  تعميق الفرز الحقيقي في المجتمع والدولة وليس الانقسام وباستخدام الوسائل والأدوات الممكنة جميعها من التظاهر السلمي إلى العرائض والاعتصامات والاضرابات واستخدام الإعلام إلى مجلس الشعب والحكومة..   

دخلت الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير بمكونيها الأساسيين في التشكيلة الحكومية الجديدة، وانهالت عليها الاتهامات من كل حدب وصوب بأنها بذلك خرجت من إطار المعارضة لكي «تتحالف» مع النظام، والحديث هنا –بطبيعة الحال- لا يأخذ بعين الاعتبار رأي مجلس اسطنبول الذي لا يرى معارضاً إلا من يدعو للتدخل الخارجي، كما لا نعير وزناً لرأي أجزاءٍ من هيئة التنسيق تتبع هذا الأخير وتتوسل رضاه..

يجري الحديث تحديداً عن النظام من جهة، وعن بعض أطياف المعارضة الداخلية ذات الموقف الوطني. فقد عمل إعلام النظام على اعتبار دخول الحكومة تماهياً معه، وهذا موقف لا نستغربه من عقلية إقصائية متأصلة، ومن اعتياد النظام على وضع الناس تحت إبطه بتوزيع بعض الفتات والمناصب عليهم، كما هو الحال مثلاً مع أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، يضاف إلى ذلك إصرار أجزاء من النظام على استمرار تكريس الثنائية الوهمية بين موال ومعارض دون أن تعي أن الشعب السوري بمعظمه قد غدا اليوم معارضاً ولكن على طريقته الوطنية الخاصة، فهو لن يصبر على استمرار الفساد والقمع ولكنه ولوعيه خطورة المرحلة اختار طريقه المستقل لكسر سطوة الفاسدين الكبار وتحكمهم بأجهزة الدولة المختلفة لينقل سورية إلى أفق جديد..

تشترك بعض أطياف المعارضة الداخلية الوطنية في سورية مع النظام في انتمائها إلى الفضاء السياسي القديم، فهي تعالج وقائع اليوم بأدوات الماضي، ومنهم السيد فاتح جاموس الذي اعتبر دخول الحكومة «تحالفاً مع النظام» و«ابتعاداً عن الجماهير الشعبية» متجاهلاً كون الحكومة المشكلة هي حكومة أزمة، خطوة باتجاه حكومة وحدة وطنية، وبكلام آخر فهي حكومة وحدة وطنية بمن حضر، ولعل الأسابيع القليلة القادمة ستثبت ذلك، فالجبهة بوجودها داخل الحكومة إنما تسعى لتعميق الفرز في المجتمع السوري بالاتجاه الصحيح، وهي إذ توضع اليوم في موقع مسؤولية مباشرة فإنها ستطالب بالصلاحيات اللازمة لحل الأزمات المتعددة المستويات في سورية، ويبقى أن الجبهة مستعدة لخوض المعركة المباشرة مع الفساد، وحين يصبح من غير الممكن التقدم فليس هنالك ما هو أسهل من الاستقالة، وليسمح لنا السيد فاتح وهو الذي يعتبر نفسه مجدداً، ليسمح لنا بالاجتهاد، فالظرف الاستثنائي يحتاج إلى حلول إبداعية..