سورية.. نحو دوّامات الحروب الأهلية أم شواطئ التغيير الوطني؟!
يبدو أنّ الأزمة السورية وهي تدخل شهرها الثامن، وشتاءها الأول، لا تكترث كثيراً بما يرفعه أو يسقطه السوريون في شوارعهم على اختلافها.. فهي بعدما تسربت من القربة العربية المثقوبة غربياً وصهيونياً، ومع استمرار عرقلة مبادرات الحلّ السياسي السلمي للأزمة، من جانب المكونات السياسية التقليدية سواءً في النظام أو في معارضته، ومن جانب الحلف الإمبريالي-الصهيوني- الرجعي العربي ، ومع إصرار المتشددين في الجانبين على تكسير بعضهم رؤوس بعض على حساب دم الشعب السوري، أخذت الأزمة تقترب من هاوية الحرب الأهلية، بدفع وتشجيع من كلّ تجار الأزمات السابق ذكرهم.
فبغض النظر عما تبثه وسائل الإعلام المختلفة بطيف واسع يتراوح ما بين التجاهل والتهويل، فإنّ التفاصيل التي يعيشها المواطنون السوريون على الأرض، وخاصة في محافظات معينة أكثر من غيرها، بات أمراً لا يمكن تجاهله أو السكوت عنه. بل صار من الضروري اعتبار نذر الاقتتال الأهلي ظاهرة خطيرة يجب تحليلها ومعرفة جوهرها من أجل إيقاف تطورها.
إنّ المجتمع السوري، مثل أي مجتمع آخر، يحتوي موضوعياً على فئات اجتماعية مقسمة على أسس محورية طبقية (عمال، وفلاحين، وبرجوازيات صغيرة، برجوازية كبيرة)، وثانوية فئوية (دينية، وطائفية، وعشائرية..إلخ).. ووجود الفوارق الثانوية بحد ذاتها ليس سبباً في الاقتتال الأهلي، رغم أن وجود وتطور هذه الفوارق عبر فترة طويلة من تاريخنا كمجتمع إقطاعي تحت الاحتلال العثماني، ثم كمجتمع رأسمالي ثالثي خاضع للاستعمار المباشر قبل الاستقلال، ثم الاستعمار الجديد بدرجات متفاوتة، بعد الاستقلال، جعل البنى أو الكتل الاجتماعية المفروزة على أساس الفوارق الفئوية الثانوية تلعب دوراً وظيفياً رجعياً، ألا وهو تقديم هويات ضيقة لما بات يعرف بـ«مكونات ما قبل الدولة الوطنية»، والتي استمرت على ما يبدو حتى ما بعد الدولة الوطنية بمنافسة الانتماء إلى الهوية الوطنية الجامعة.
وبحكم الوجود الموضوعي لهذه التقسيمات، تتواجد لدى كل مواطن سوري هويته الطبقية مع هويته الثانوية الدينية والطائفية إضافة إلى هويته السورية الجامعة. ولكن درجة الوعي بهذه الهويات وترتيبها حسب الأولوية تختلف بين المواطنين، وهذا ينعكس على السلوك الاجتماعي لهم، والذي يؤثر سلبياً أو إيجابياً على تفعيل أو تثبيط التوترات الاجتماعية الهدّامة المميزة للحرب الأهلية بمعناها السلبي، أي القائمة على العنف الفئوي الثانوي ولا سيما الاقتتال الطائفي. وفي سورية لعبت مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية وعبر عقود دورها في تعميق التشدد في الهويات الضيقة.
ويعد الفساد أحد أهم هذه العوامل، لأنه بالأساس، وفي بنيته مرتبط عضوياً بالمصلحة الضيقة، وبالتالي تناسبه المحسوبيات الثانوية من طائفية وغيرها. لأنّ مصلحة الفساد الكبير في التعمية على انحيازه الطبقي تجاه الأغنياء والبرجوازية الكبرى، تقتضي منه تغذية التطرّف والتشدد في الانتماء الضيق دينياً أوطائفياً، لأنه يحرف البوصلة عن الاصطفاف الضار بمصلحته، ألا وهو الاصطفاف الطبقي للطبقات الفقيرة، والذي لا يمكن إلا أن يكون وطنياً جامعاً، لأنهم الأغلبية الساحقة من الشعب السوري من جهة، ولأنّ مصالحهم العميقة معادية بشكل تناحري ليس فقط للفساد الداخلي بل ولما يرتبط به في الخارج من منظومة الفساد والنهب العالمي، أي أنه لا يمكن إلا أن يكون معادياً للإمبريالية والصهيونية.
ولما كان الفساد بجوهره الطبقي عابراً للانتماءات الثانوية الأخرى، فإنّ الفاسدين من كلّ دين أو طائفة عملوا على التساهل أمام تدفق الأموال الخارجية من كل حدب وصوب تحت ستار دعم مشاريع خيرية محسوبة لهذا الدين أو ذاك ولهذه الطائفة أو تلك، ولعب ما يسمى «البترودولار» دوراً كبيراً في هذه العملية، أي تمويل التطرف الديني والطائفي من قبل دول الخليج العربي النفطية، بحكم ارتباطها العضوي بالإمبريالية الغربية والأمريكية خصوصاً. ولا سيما أنّ هذا البترودولار وفرت له خلال العقد المنصرم تربة خصبة جديدة مروية بالمياه الآسنة للسياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة المتساوقة مع تنشيط الاستثمار الريعي والشكل الليبرالي المنحاز برجوازياً من مؤسسات المجتمع المدني.
وفي ظلّ الأزمة الحالية لاحظنا ظهور محركات جديدة للاقتتال الأهلي، سواء كان وجودها خطأً في معالجة الأزمة، أم عملاً تخريبياً مقصوداً من عدة أطراف، وعلى رأسها العنف الأمني الذي ظهر وتصاعد ولم يتوقف حتى الآن، وأقصد تحديداً في التعامل مع الاحتجاجات السلمية البحتة من تظاهر شعبي سلمي ، أو نشاط سياسي سلمي. وأفرق ذلك عن الحسم العسكري مع الميليشيات المسلحة، الذي هو أمر ضروري، ولكن لا يحلّ الأزمة وحده رغم ذلك.
يضاف إلى ذلك بعض التشريعات من قبيل دعوة وزارة الداخلية للمتعاملين بالسلاح إلى تسليم أنفسهم (إذا لم يكونوا قد استخدموه للقتل)، مع وعدهم بإخلاء سبيلهم، فيحق لنا أن نسأل: ماذا، ومن يخدّم هذا التناقض بين التسامح مع تجار السلاح ومهربيه من جهة، في مقابل التشدد والعنف مع المحتجين سلمياً، وبقاء معظمهم حتى الآن داخل المعتقلات والسجون؟! ألا يضيف هذا رافداً يشجع على التسلح والاقتتال الأهلي؟!
بالمقابل يضاف إلى محركات الحرب الأهلية التزايد الملحوظ للتسلح وتوريط الحركة الشعبية باستخدام السلاح وتشجيعها عليه، من جانب الجهات الإمبريالية وأذنابها من الرجعية العربية وبعض الجهات المعارضة التي تدعي تمثيل الحركة الشعبية والحرص عليها.
أما إعلامياً فإنّ التصعيد الموجّه نحو التسلح والشحن الطائفي جارٍ على قدم وساق، من قبل الإعلام الخارجي، مثلما لا يبرّأ منه كثيرٌ مما يبثه الإعلام السوري الرسمي وشبه الرسمي، وإلا فماذا يعني أن يتزايد في الفترة الأخيرة، ومن الإعلامَين كليهما، فتح منابر لشخصيات مختلفة، وخاصةً دينية، تظهر لتعزز لعبة الاصطفاف الخاطئ، عبر تقديم أنصاف الحقائق حول الأحداث في انحياز لجزء من الضحايا مع تجاهل الأجزاء الأخرى؟ وماذا يعني تبرير التسلح بما يسمى «جيش سورية الحر»؟
مع هذا الشحن العالي للعصبيات الفئوية الضيقة، ومع تغييب العقول، والتباطؤ في بدء الحل السياسي والحوار، لا أعرف إلى أيّ مدى فعلاً قد يحبّ أحدٌ من السوريين أن يأكل لحم أخيه ميتاً.. أو حياً؟! ولكنّي أعرف أنّ من بهم اليوم شبقٌ لا يحدّ لمذابح يسال فيها الدم السوري بأيادٍ سورية، وتبقى فيها أياديهم «نظيفة»، هم الأعداء الحقيقيون للشعب السوري: فاسدو سورية (الموجودون في الداخل والخارج، وفي النظام وفي المعارضة)، مع أربابهم في أوروبا وأمريكا و«إسرائيل»، بالإضافة إلى أذنابهم العربية والعثمانية الجديدة، فهل يصحّح أبناء الشعب السوري اصطفافاتهم الخاطئة قبل فوات الأوان؟