الأمن الوطني في ظل الثنائيات الوهمية!

الأمن الوطني في ظل الثنائيات الوهمية!

ما الذي يهدد الأمن الوطني السوري؟ تبدو الإجابة بسيطة على سؤال كهذا، في ظل المعارك الدائرة على الأرض السورية اليوم، فلا بد أن التدخل الخارجي العسكري المباشر شكل وربما لا يزال، العامل الأكثر تهديداً لوجود سورية ككيان، يضاف إليه المعارك الدائرة والمتوسعة، والتي بنتيجتها، يقتل مدنيون وعسكريون، وتدمر مدن، وينزح الكثيرون...

وبناء عليه يطرح أحد طرفي الصراع «الإرهاب» كالعامل الأساسي المهدد للأمن الوطني، ويفترض بعدها أن محاربته بالحسم الامني هي النقطة الأولى التي تليها نقاط أخرى، أو قد لا تليها، لكن ما يهدد الأمن الوطني أبعد بكثير من اختصاره بالإرهاب، بل إذا أمكن اختصاره شكلياً، يمكن القول بأن انقسام الشعب السوري وجاهزية فئات منه للاقتتال هو المهدد المباشر للأمن الوطني بالمعنى الملموس، فإذا كان السلاح هو أداة تهديد الأمن الوطني، فالسوريون هم حملته ومجندوه، وإذا ما كان العامل المذهبي هو «خطاب الانقسام» فالسوريون أيضا هم أطرافه ومرددوه، وإذا ما كان الدم هو موقد السعير، فهو كذلك من دماء السوريين من كلا الطرفين، ولكن هذا ما يمكن أن نسميه الرؤية الأولية المباشرة للعوامل التي تهدد الأمن الوطني.

ولتعميق الرؤية، يمكن طرح تساؤل، ما الذي جعل بعض السوريين على هذا المستوى من الجاهزية للاقتتال، او الانقسام، وما الذي يسبب تعميق الشرخ الوطني؟..

بداية حتى تصبح فئات من السوريين دعاة حرب، وتدخل، وثأر، لا بد من وجود شرخ وطني عميق، يمس كل المحرمات، يبدأ من لقمة العيش، ولا ينتهي عند كل ما يتعلق بالكرامة المجروحة. فمن هدد ويهدد لقمة العيش هو الوضع الاقتصادي الذي يسير نحو الانهيار، وموجات البطالة المتزايدة من مرحلة ما قبل الأزمة، والتي نؤرخ لها بوضوح من تبني اقتصاد السوق، وتخلي الدولة النهائي تقريباً عن هامش الضمان الذي كانت تشكله، الوضع الذي أخرج العاطلين والمهمشين والكثير من السوريين من دائرة الشعور بالأمان، وأدخلهم في دوامة الفقر والتخلف، والبحث عن حلول لايقدمها إلا اصحاب الأيادي الملطخة بالفساد، والمزدهرون في زمن التدهور الشعبي والوطني.

هؤلاء هم أغلب حملة السلاح المحليين أو من يشملون ضمن الإرهاب والإرهابيين، وهم من مهمشي سورية الذين احتاجوا إلى حبل نجاة قبل تورطهم في دوامة العنف، إلا أن هذا الحبل قد قطع مع إصرار المعنيين بانتشالهم، على توريطهم أكثر فأكثر، فلم ينتشلو من فقرهم وبطالتهم، ولم تقدم لهم ضمانات حقيقية بالمقابل تم ويتم الإصرار على حماية أعدائهم المباشرين، وهم الناهبون، لا بل توسيع هامش تعسفهم، مقابل استهلاك كل قدرة وإرادة شعبية على ضبط النفس.

أما العامل المذهبي، والذي يبدو لاعباً حاسماً، يغدو هشاً إذا ما ردّ إلى مسبباته العميقة، وهي لجم الوعي السياسي عن التطور، وإعلاء الأصوات المعبرة عن خطاب التطرف، وهي عملية لم تولد مع الأزمة، وإنما ترسخت بصورة عفوية، مقابل التغييب الطويل للبدائل،وهو ما يستمر حتى الآن حيث توضع الانتماءات الطائفية في المقدمة، عن طريق تشويه العملية السياسية وإفراغها من مضمونها وحماية الفضاء السياسي القديم كشكل يناسب توازنات النهب ولا يعيقها.

 

ثنائية وهمية..

إذا ما كان الإرهاب يهدد الأمن الوطني وبشكل جدي، وهذا صحيح، فالسؤال: هل القضاء على الإرهاب فقط كفيل بإعادة الأمن الوطني، أو هل بقاء النظام على حاله، ما قبل الأزمة وبعدها يلجم تدهور الأمن الوطني؟

تتعلق الإجابة على هذا السؤال بالرؤية العميقة أو السطحية للأزمة الوطنية، فأصحاب الرؤية السطحية هم من يرون أن الحسم الامني الذي يقضي على الإرهاب، شرط لحماية البلاد من التدهور الحالي، أي من يرون أن الأزمة فقط دماء وسلاح ومؤامرة خارجية، يتجاهلون كل ما تنطوي وراءه هذه المظاهر، ويعيقون حلها، وهم بالتالي يتبنون خط تعميقها وتسعير السلاح والدم والتهميش وبالتالي الانقسام، ويهددون الأمن الوطني..

بينما الرؤية العميقة تتطلب البحث عن الجذر المهدد للأمن الوطني، وهو مستوى التهميش والتردي الاقتصادي – الاجتماعي لدى فئات واسعة، أما من يزيد الأزمة عمقاً فهو ليس الإرهاب والتبني الخارجي للسلاح المليشيوي فقط، وإنما كل من يضيق الخناق على الشعب السوري، ساحباً منه كل زمام المبادرة، وتاركاً له هامشاً ضيقاً لتحصيل لقمة العيش الكريمة، أو لتحصيل حقه بالعيش الكريم داخل وطنه، وكل من يطلق العنان للفساد لكي يحصل من تعب الشعب السوري كل ما يستطيع، وكذلك كل من يصر على إغلاق جميع أبواب الحل السياسي الجدي، ويمتنع عن تقديم التنازلات، ويمتنع عن الانفتاح على الشعب السوري بكافة فئاته، معيقاً بذلك المصالحة الوطنية، وتاركاً السوريين بلا حاضن موثوق يجمعهم، ليعودوا جماعات إثنية طائفية، فحذار من كل هذا التعنت الذي يهلل له كل راغب بدمار سورية ووحدة شعبها، وفي مقدمتهم متآمروا الخارج.