الافتتاحية: خارطة الانتفاضات القادمة..
يؤكد التصاعد الدراماتيكي للأحداث على امتداد المنطقة أن عودة الجماهير للشارع للمطالبة بحقوقها أصبح أمراً موضوعياً لا يمكن منعه أو لجمه أو عرقلته..
ومما لا شك فيه أن الإمبريالية العالمية، وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية المتحكم الأبرز بمصائر الشعوب والدول والأنظمة التابعة، هي أكثر من يدرك هذه الحقيقة، كونها المنتج الأساسي للسياسات النيوليبرالية المولدة للفقر والبطالة والاحتقانات الشعبية على مستوى العالم، وبالتالي الانتفاضات التي قد تنتج عنها، والراعي الأبرز للأنظمة والحكومات المنفّذة لهذه البرامج والسياسات بالحديد والنار تارة، والاحتيال والمراوغة تارة أخرى، والمستفيد الأكبر من نتائج تعميم هذه السياسات عالمياً، وخصوصاً في دول الجنوب المنهوب.. لذلك فإن أشد ما يقلق الإمبريالية الأمريكية المتصارعة مع نظيراتها، والمأزومة لدرجة الاختناق، هو كيفية امتصاص هذه الاحتقانات إن أتيح لها ذلك، وركوب موجتها وتوجيهها إن انفجرت رغماً عنها، ومن ثمّ إسكاتها بعطايا لا ترتقي لمستوى مطالبها الأساسية وتطلعاتها الحقيقية إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً.. وقد تضطر في هذا الإطار إلى خلع بعض أحذيتها من الحكام والحكومات، وتغيير بعض الوجوه والرموز، وتقديم بعض التنازلات الشكلية... في سبيل المحافظة على جوهر النظام، ومقدار حصتها من الثروات المحلية في كل بلد إن لم يكن أكثر، ومستوى الهيمنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومنع خصومها ومنافسيها الآخرين من مقاسمتها أو محاصصتها..
ونظراً لغياب القوى والتنظيمات والمنظمات الثورية الفاعلة في معظم دول المنطقة التي يطغى على أنظمتها الطابع الدكتاتوري، نتيجة تلقيها ضربات موجعة طوال عقود، أدت إلى تفتت بعضها، أو اندثار بعضها الآخر، أو انحراف قسم منها عن مساره الثوري، فإن الجماهير تجد نفسها مضطرة أن تخوض معركتها حتى الآن، دون طليعة واعية تسير في المقدمة في أي حراك، توجه خطاها وتصوّب مسيرتها وترفع شعاراتها الأساسية وتحدد عدوّها بدقة، وهذا قد يسهّل على القوى التي تستغل الجماهير أن تستمر في محاولة إدارة وتوجيه الانتفاضات وحرفها عن مسارها وإجهاضها إن تمكّنت من ذلك.. خصوصاً أنها -كما أسلفنا - أكثر من يدرك أن هذه الانتفاضات ستتوالى وتتصاعد في كل مكان نتيجة استمرار سياساتها، وإن كانت آخر من قد يتخيل أنها ستستفيد من دروس سابقاتها، وأنها ستفرز عاجلاً أم آجلاً قادتها الميدانيين الواعين وأطرها المطلوبة أثناء المعركة الطويلة التي سيزيد احتدامها.
إن الانتفاضة التونسية، والانتفاضة المصرية التي تهل بشائرها، بيّنتا حتى الآن، أن الإمبريالية تبذل ما بوسعها أثناء الانتفاضات الشعبية لإيهام المنتفضين أن عدوهم الأوحد هو الطاغية، وليس النظام السياسي – الاقتصادي القائم ومن يفرضه ويديره ويحدد الحصص المتفاوتة بشدة من وراء الكواليس، والذي يكرّس التوزيع اللا متكافئ للثروة بين المراكز الإمبريالية الكبرى المهيمنة، ودول الأطراف الضعيفة المحكومة بالدكتاتورية والتخلف والتبعية المذلة، وهو أمر قلما يجري التنبّه له مع النشوة التي تطغى على المحروم والمقموع والمهمش عند نزوله إلى الشارع ليصرخ ويعبّر عن سخطه على النظام المحلي وممارساته ونهبه وصلفه، وبالتالي ستحاول الإمبريالية بكل الوسائل، بما في ذلك الوسائل العسكرية، أن تبقي تقسيمات الثروة المختلة بشدة لمصلحتها ومصلحة حلفائها، على حالها، وستستمر في التضليل والمراوغة وتبديل الوجوه والتواري خلف شعارات الحرية والديمقراطية، وستتابع تصدير أزمة نظامها الذي دخل في طور الانهيار إلى كل بقاع الأرض لإطالة عمره قدر الإمكان، وسيزداد مستوى وحجم ونوع تدخلها مع ازدياد الاحتجاجات والانتفاضات، وخاصة في الدول التي تمتلك ثروات واحتياطات باطنية كبيرة، والدول التي قد يؤثر أي تغيير اجتماعي – اقتصادي جذري فيها على وجود ربيبها وحليفها الكيان الصهيوني.. وهذا يؤكد بدوره أن تحقيق أي مطلب اقتصادي- اجتماعي أساسي غير ممكن دون خوض معركة وطنية كبرى ضد الإمبريالية وسياساتها وعملائها وحلفائها.
إن كل ذلك يفرض على القوى الثورية والوطنية الحقيقية في العالم وفي منطقتنا أن تستعيد دورها الوظيفي، الوطني والطبقي، وهذا لن يتم إلا بالعودة إلى الجماهير، والجماهير الآن في الشارع، أو على وشك، وبالتالي إذا أرادت هذه القوى أن تلاقي من تمثلّهم وتعبّر عن مصالحهم عليها أن تعمل جادة وأن تهيئ نفسها من الجوانب كافة لتكون في طليعتهم، جاعلة من مطالبهم الأساسية شعارات لها، وأهدافاً مطروحة للعمل الجدي من أجل تحقيقها..
في سورية التي تفرض فيها القضية الوطنية نفسها بشدة نتيجة اشتداد المؤامرات الإمبريالية والصهيونية على ممانعة شعبنا وصموده، تشكل السياسات الليبرالية المتبعة خطراً حقيقياً، ليس على مستوى معيشة الناس وجاهزية وسلامة الاقتصاد الوطني فحسب، بل على القضية الوطنية نفسها، وهذا يفرض ضرورة نسف هذه السياسات، وفي ذلك ضمان لكرامة الوطن والمواطن