الأزمة السورية مثال عملي للتناقض التناحري بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج
يحق للباحث المتمعن اللاهث لمعرفة الأسباب الحقيقية التي تقف وراء الحراك الشعبي الجاري في المنطقة العربية، والتي اصطلح على تسميته (بالربيع العربي)، أن يتساءل: هل ما جرى ويجري حالياً في المنطقة عموماً، وفي سورية خصوصاً، مجرد مصادفة، أم ضرورة موضوعية لا مفر منها؟! ثم هل كان انتقال الاحتجاجات الشعبية من تونس إلى مصر ثم إلى ليبياواليمن والبحرين، وأخيراً إلى سورية بفعل العدوى؟! وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم تشمل باقي البلدان العربية بالوتيرة ذاتها كالجزائر والمغرب وموريتانيا والأردن ودول الخليج العربي، رغم أن كل هذه البلدان تعاني من الأزمات نفسها مع وجود خصوصيات لكل بلد؟! وأخيراً، هل ما جرى ويجري حالياً هو كما ادعت وتدعي غالبية هذه الأنظمة (مؤامرة خارجية) فقط، وأنالأمور ما كانت لتتطور إلى أزمة في هذه البلدان لولا التدخل الخارجي؟!.
هي أسئلة كبيرة بلا شك، والإجابة عليها لا يمكن أن تكون بسيطة، بل هي معقدة لدرجة أكبر من التعقيدات التي تلازم هذه الأزمة الآن، بل إن تبسيط الإجابة على أن أسباب الأزمة داخلية أو خارجية فقط قد تحرف الإجابة عن مسارها الصحيح، وبالتالي توصلنا إلى استنتاجات وحلول خاطئة، ذلك أن الحلقة الأولى في حل الأزمة تكمن أساساً في بيان الأسباب العميقة الحقيقيةالتي وقفت خلف هذه الانتفاضات الشعبية التي انطلقت من عقالها فجأة ودون سابق إنذار.
قبل الانفجار
لقد نتج عن تنفيذ الخطة الخمسية العاشرة نتائج كارثية بحق الاقتصاد السوري، فبدلاً من أن يؤدي تنفيذها إلى حلحلة الأزمات المستعصية، ازدادت تأزماً، وتفاقمت بصورة فاقعة، إذ ازدادت نسبة الفقر العام من 8.5% في عام 2006 إلى أكثر من 14% حسب الأرقام الرسمية، ووفقا لتقرير الأمم المتحدة الأخير يعيش 14% من السوريين تحت خط الفقر (ما يعادل دولارواحد في اليوم) و44% معدل الفقر العام، وارتفعت نسبة العاطلين عن العمل من 11% إلى حوالي 20%، وتراجعت مساهمة الزراعة من 28% من الناتج المحلي السنوي إلى أقل من 14% وكذلك الصناعة من 35% إلى أقل من 17% وخفض معدل الاستثمار إلى ما يعادل 15% تقريبا من الناتج المحلي السنوي وقد رافق كل هذه المشاكل نهب جائر وممنهج من قوىالفساد وصل إلى 40% من الناتج المحلي وترافق أيضا مع كل هذه التراجعات اعتماد ما يسمى بـ(اقتصاد السوق الاجتماعي) كيافطة كبيرة تختفي تحتها سياسة اقتصادية ليبرالية تم تنفيذها بحذافير ها بعد اعتماد وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين في وقت كانت هذه السياسة تعاني الأمرين وبدء التراجع عنها عالميا بسبب الأزمة الاقتصادية التي أصابت النظام الرأسماليكله والذي دخل الآن بمرحلة اشد منها ذات طابع بنيوي وكثير من المحللين الاقتصاديين في العالم يرون أن الخروج منها أضحى مستحيلا أو شبه مستحيل، وقد أدى تطبيق اللبرلة الاقتصادية إلى فتح البنية التحتية المحتكرة للدولة أمام القطاع الخاص وانخفاض مساهمة القطاع العام الذي تم نهبه وتخسيره بشكل جائر بشع إلى أن وصل إلى أقل من 20% من الناتج المحليالسنوي وذلك تمهيدا لإنهائه عبر خصخصته وإطلاق رصاصة الموت الأخيرة على ما تبقى منه أضف إلى كل هذا تراجع الدولة عن دورها الاجتماعي كليا والاستعاضة عنها بسياسة جديدة شعارها المعلن (إعطاء الدعم لمستحقيه) أما هدفها الخفي فهو التوقف كليا عن هذا الدعم مع إتباع سياسة إغراق الأسواق بمنتجات صينية وتركية أدت بدورها إلى إغلاق عشراتالآلاف من المنشآت الصغيرة والمتوسطة والكبيرة وحدوث هجرة واسعة من الأرياف إلى المدن وخصوصا من المنطقة الشرقية بسبب ضعف وانعدام عائدية العمل الزراعي ونستطيع القول بشكل عام إن تنفيذ الخطة الخمسية العاشرة جاء بنتائج عكسية كارثية على الاقتصاد السوري الذي تحول عملياً إلى اقتصاد ريعي غير منتج.
أمام هذا الواقع المتردي للقوى المنتجة في المجتمع السوري لم يدرك النظام السياسي القائم بأنه غير محصن من أي تغيير، فإن كان النظام قد أمن خلال فترة السبعينيات والثمانينيات تعبيد كل الطرق السالكة أمام التطورات التي حصلت اقتصادياً واجتماعياً، إلا أنه منذ بداية التسعينيات، وعبر الإهمال الفادح الذي وقع فيه بدأ بوضع الحواجز الشائكة وزرع الألغام في طريقالتطور اللاحق، وتناسى أن تراكم الأخطاء وتفاقم المشاكل الاقتصادية دون بذل ولو جهد بسيط من أجل وضع حلول ملموسة لها، سيؤدي بالضرورة إلى انفجار أزمة سياسية لا تبقي ولا تذر، جوهرها اقتصادي بحت.
وبعد التحالف غير المعلن بين البرجوازية البيروقراطية والبرجوازية الطفيلية، قام النظام بفرض مجموعة من العلاقات على المجتمع، وحافظ عليها بقوة أذرع الدولة بمؤسساتها المختلفة من خلال فرض سياسات ليبرالية كانت مهمتها الأساسية مركزة الثروة بأيدي قلة من الفاسدين يحوزون سنويا على 80% من الناتج المحلي، وترك الفتات الذي لا يتجاوز الـ20% لباقيفئات الشعب, مع اختفاء دور الدولة الاجتماعي، وبات استيراد المواد محتكراً فارتفعت أسعارها بشكل كبير، ورافق ذلك إتباع سياسة «الانفتاح الاقتصادي» مما أدى إلى إغراق السوق السورية بالبضائع الصينية والتركية فتركت آثارا سلبية كبرى على الإنتاج السوري المماثل.. كل ذلك بفضل تفشي ظاهرة (تحالف الثروة والسلطة) حيث تم عبر هذا التحالف لجم والضرب بيدمن حديد كل من يقف في وجه هذه السياسات، وأصبح قانون الطوارئ الذي عطل الدستور سنوات طويلة هو القانون السائد، فساهم في عدم مساواة المواطنين أمام القانون، بل أصبح هناك قوى فوقه من الفاسدين داخل وخارج أجهزة الدولة ولا يطبق إلا على الجماهير الشعبية، نعم لقد حافظت قوى الفساد المتحالفة مع أجزاء كبرى من النظام على نهبها المنتظم للاقتصادالسوري دون رقيب أو حسيب فارتفعت نسبة البطالة وازداد الفقر وأصبح الفاسدون والمرتشون والمهربون من ذوي الياقات البيضاء في حين أن من كان يقاوم هذه السياسات يتعرض وبشكل يومي إلى الإهانات والاعتقال في أحيان كثيرة، وبدلا من تفعيل الحياة السياسية تم القضاء على الحياة السياسية والحزبية والنقابية والثقافية. كل هذا أدى إلى شعور عام بالإحباطالداخلي الذي ينتظر شرارة ما للانفجار، وقد جاءت هذه الشرارة، وأصبحت المادة الثامنة من مادة تحمي الحزب وتمنحه القدرة على قيادة البلاد مع الجبهة الوطنية التقدمية إلى مادة ساهمت بقوة في تكليس الحياة السياسية وجعلت الحزب يحتمي فيها ويتمركز حولها ضد أية انتقادات يمكن أن توجه لعمله القيادي فتم استبعاد ذوي الكفاءات فانتفت المعارضة وغابت الحلوللأية مشكلة واجهها المجتمع السوري.. كل هذا أدى إلى شعور عام بالإحباط الداخلي الذي كان ينتظر شرارة ما للانفجار.
البناء الفوقي والبناء التحتي
هذا واقع البناء التحتي، فماذا عن البناء الفوقي، وهل كان بالإمكان إيقاف هذه الشرارة (الأزمة) من الانفجار؟.
الواقع يجيب أن البناء الفوقي خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات بنظامه السياسي ومؤسساته الحقوقية والأخلاقية والفكرية والفنية، كان انعكاسا للبناء التحتي، بل وفي البدايات كان أكثر تطوراً منه، بحيث أنه فتح المجال الواسع أمام تطور القوى المنتجة، لكن التراجعات التي حدثت في بداية التسعينيات أصبح بموجبها البناء الفوقي متخلفاً عن البناء التحتي، ومارس دوراًأساسياً في فرض علاقات للإنتاج وبالقوة الأمنية التي كانت أحد أسباب الحد من تطور القوى المنتجة أولاً، ثم في تراجعها ثانياً.. لقد كانت هناك إمكانية واحدة لا ثانية لها في منع شرارة الأزمة من الانفجار، وهي اجتثاث الفساد من جذوره وإجراء الإصلاحات الضرورية لإعادة البناء الفوقي إلى واقع التطابق الطبيعي والضروري بينه وبين البناء التحتي، وكانت هذه الإمكانيةمتوفرة، ولكن جرى إهمالها مما ترك الأزمات والأخطاء تتراكم إلى تلك الدرجة التي جعلتها تنفجر في وجه النظام بشكل موضوعي بعدما أصبح في وضع غير قادر على لجمها ومنعها من الانفجار، وإذا كانت الإمكانية متوفرة لهذا المنع إلا أن انفجارها كان ضرورة لابد منها، ولا يمكن لأي نظام مهما كان قويا أن يقف في وجهها، فكيف بنظام لم يفكر بوضع الحلول البديلة،وعندما فكر بها قبل سنوات من انفجارها لم يحرك ساكناً، بل اعتمد على قواه الأمنية لمواجهتها.
والآن وبعد انفجار الأزمة نتيجة للتناقض التناحري بين القوى المنتجة الممسوكة من عقالها وتم إيقاف تطورها بالقوة، وبين علاقات الإنتاج التي مارست دوراً أساسياً في لجم تطور القوى المنتجة، فإن الحل الوحيد لها يتبدى بضرب هذه العلاقات فقط ولا حل آخر ولو كان بالقوة. وإذا كان لا يمكن وقف الصيرورة التاريخية فإن انتصار القوى المنتجة على علاقات الإنتاج التيتحد من تطورها أمر طبيعي وضروري، أما العكس فإنه يعني إعلان وفاة البلد كدولة قائمة بحد ذاتها كعقد اجتماعي بين أبنائها إلى مجرد أراض تعيش فوقها مجموعات متنوعة متقاتلة لا يحكمها القانون ولا سيادة لديها.