حوار مع صديقي المعارض جداً
بعد أن غسلني بتقريقاته وتوبيخاته بسبب مشاركتنا بالانتخابات النيابية الأخيرة، وبعد أن كال جميع التهم للجبهة الشعبية للتغيير والتحرير، وصولاً إلى وصفه لنا بأننا أثبتنا بهذه المشاركة بأننا عملاء للنظام، وبأننا لا نختلف عن باقي أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية بشيء،
إلا بأننا أخبث منهم. وأثناء تدفّقه بالكلام بدأ الزبد يتطاير من فمه فأصابني ببعض رذاذه. مسحت وجهي بواسطة محرمة انتشلتها من علبة عن الطاولة التي تجمعنا وناولته محرمة ليجفف فمه، وضيّفته كأس الماء الذي قدّمه لي منذ هنيهة ولم أشرب منه شيئاً، وأشعلتُ سيجارتين بكل محبة وناولته واحدة. وطلبت منه بكل هدوء أن يسمح لي بالردّ قائلاً:
صديقي العزيز! أولاً أتمنى عليك احترام وجودي في بيتك، وتقدير دأبي بالتواصل معك بالرغم من الخلافات الكثيرة التي بيننا. صحيح أنك لا تزورني إلا بالمناسبات الهامة، وخاصة بعد اندلاع الأزمة في بلدنا، واختلاف وجهتي نظرنا حول تشخيصها وآلية الخروج منها. ولكن أعتقد أنه يجمعنا شيء أكيد هو محبتنا لهذا الوطن الجميل. لا شك أن الظرف الذي تمر فيه البلاد ليس مثالياً لإجراء الانتخابات، وأن القانون الانتخابي فاسد بكل معنى الكلمة. وأن قوى النهب والفساد، سواء تلك الموجودة داخل النظام أم في خارجه، تسعى بكل ما تملك من قوة ونفوذ، إلى عرقلة العملية السياسية لخطة كوفي أنان، خوفاً من الإصلاح الجذري والشامل، والذي ربما من أهمّ عناوينه اجتثاث الفساد الكبير واسترداد المنهوبات.
قاطعني عابساً:
على مهلك، وهل هذا النظام أصلاً قابل للإصلاح؟ أيعقل بعد كل هذه الجرائم التي ارتكبها بحق الثورة والثوار والوطن بشكلٍ عام، وتقول إصلاح؟! كبّر عقلك يا رجل!
قلت له:
أولاً نحن من جهتنا لا نصف الحراك الشعبي الحاصل بالثورة، فالثورة لها مقوّمات لا تتوفر بما يجري حالياً. الثورة لها برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي.. تشارك فيها كافة الشرائح والمكونات وتطالب بالتغيير الجذري. وتقودها طليعة واعية منظمة تدير العملية الثورية. وهذا غير متوفر حتى الآن. فالشعارات والهتافات التي تدعو إلى إسقاط النظام دون أن تتمكن من إيجاد البديل له، لا تصنع ثورة. ثم إن ثورة تناصرها قطر والسعودية وتركيا وأمريكا.. ليست ثورة بالتأكيد. و..
قاطعني مجدداً وقد جحظت عيناه غضباً: يا رجل! شعب بأكمله يهبُّ مدافعاً عن حقوقه وكرامته، ويتحمّل كل أنواع العسف والبطش والتنكيل والقتل والاعتقال والتشريد.. وتبخل عليه بصفة الشعب الثائر؟! أيّة أخلاق ثورية تحملها أنت وجبهتك الميمونة هذه! احترمْ تضحيات هذا الشعب المعذب يا عبقري زمانك!
أجبته وقد بدأ الغضب يدبّ في أوصالي تدريجياً:
أولاً، لا يوجد إجماع شعبي كما تدّعي. نعم هناك شرائح واسعة من المهمّشين والفقراء والمظلومين.. متعاطفون مع الحراك الشعبي. وبعضهم مشارك به، ولو أن أعداد المتظاهرين بدأ بالتناقص بشكلٍ واضح في الأشهر الأخيرة.. ولكن هناك قوى سياسية وجماهير واسعة باتت متوجّسة من هذا الحراك، خاصةً بعد أن تم أسلمته وعسكرته. ثانياً..
بلا ثانياً بلا بطيخ مبسمر.. أعرف أنك تتهرّب من الحديث عن الانتخابات لأنكم محرجون من مشاركتكم بها بعد أن خذلكم النظام فيها.
لا يا صديقي لسنا محرجين، بل أتمنى أن يقتصر حديثنا على هذا الاستحقاق. لا سيما أن المواضيع التي تطرّقنا إليها حتى الآن في هذه الجلسة، ليست جديدة وقد سبق وتحدّثنا بها مرات ومرات ولم نتفق.. بالنسبة للانتخابات، نعم خذلنا النظام بكل الضمانات التي وعدنا بها؛ سواء فيما يتعلق بعدم التجييش ضدنا، أو عدم تشطيب أصواتنا، أو أن يكون العداد الانتخابي نزيهاً.. وما إلى ذلك. كنا نتمنى أن تكون العملية الانتخابية مدخلاً جدّياً للعملية السياسية الشاملة.. إلا أن الثغرات التي تخلّلتها والتي..
قاطعني كعادته: وما هي هذه الثغرات التي لم تكن معروفة لكم أيها الثوريون الجهابذة؟ هل تفاجأتم مثلاً بعدم جدية النظام بالإصلاح؟ هل صُعِقتم لهول الخروقات والتجاوزات؟ هل تأكّدتم من أن المادة الثامنة من الدستور القديم ما زالت حية، وأن النظام أطعمكم (كمّاً) مرتّباً؟ استيقظوا أيها المغفلون المدجّنون، كفاكم مراهنةً على أحصنةٍ خاسرة..
أولاً أتمنى عليك التحلّي بآداب الحوار يا سيد غيفارا الشرق! ثانياً نعم إن العملية الانتخابية لم تتغير على الإطلاق، وكانت خطوة للوراء، وندرك أن القوى المكابرة في حزب البعث ما زالت هي المهيمنة، ولديها الإمكانيات الكفيلة بعرقلة الإصلاح.. ومع ذلك نحن الآن بصدد دراسة التجربة على مستوى القطر، لرصد الثغرات التي اعترت تجربتنا واستخلاص الدروس منها. وسنحتفظ بها وباقتراحاتنا لتدارك هذه الأخطاء مستقبلاً. ولن نفصح عن خطتنا القادمة في خوض الانتخابات كي لا يستفيد منها خصومنا. ولكن يمكن إطلاعك على بعض مطالبنا في الانتخابات القادمة.. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لن نقبل من الآن فصاعداً بقانون الانتخابات الحالي. وسنطالب بقانون انتخابي جديد يعتمد سورية دائرة انتخابية واحدة. وأن يكون لنا في كل لجنة صندوق، وفي كل لجنة انتخاب فرعية، وفي لجنة الانتخاب المركزية.. رفيق أو نصير ممثلاً فيها، لا أن تقتصر على البعثيين. ويفضّل أن تكون برئاسة محامٍ مستقل. وسنطالب بتخفيض عدد مراكز الاقتراع إلى الخمس. وبأن تكون في المدارس فقط. والامتناع كلياً عن تخصيص دوائر الدولة كمراكز اقتراع. وأن تتم الانتخابات خلال يوم عطلة، لئلا يتم إكراه العاملين على الاقتراع وفق أهواء أجهزة الدولة. وسنطالب باعتماد لوائح الشطب في كل مركز ونفضّل أتمتة الاقتراع.. أعتقد أنه وبالاعتماد على ما سبق ذكره، يمكننا تحقيق نتائج جيدة ومضمونة تعادل نفوذنا الشعبي. وبالتأكيد لولا مشاركتنا بالانتخابات الأخيرة لما تمكّنّا من تحديد الثغرات التي تخلّلت الجولة الانتخابية. ولما استطعنا تقديم هذه الاقتراحات التي ستحقق العدالة لنا ولغيرنا إذا ما تمّ الأخذ بها.
أجاب ساخراً بعد أن عاد إليه الهدوء قليلاً: (إذا ما تمّ الأخذ بها..) هه! ولك يا بني آدم أما زلتم تتوهمون بأنكم تستطيعون كسر شوكة النظام بمهادنتكم له؟ أَوَتعتقد بأنه من الغباء لكي يوافق على لفّ الحبل على رقبته فقط لإرضائكم؟ أم إنكم ما زلتم تعوّلون على الطرف (الشريف والنزيه والنبيل..) في النظام كما تدّعون؟
نعم إننا ما زلنا نعتقد بأن «البعث» يحتوي في صفوفه خيرة أبناء هذا الشعب، ومصلحتنا كقوى للتغيير السلمي تتطابق وشرائح واسعة من صفوف البعث. إن عملية الفرز الجارية في حزب البعث تسير إلى الأمام ولو ببطء، ولكن وكما علّمتنا الماركسية فإن التراكم الكمي سيؤدّي إلى التغير النوعي لا محالة. إننا نرى أنه بتكوين ائتلاف سياسي عريض يضم كل القوى الخيّرة في المجتمع، كفيل بإحداث تغيير جذري لهذا النظام، واستبداله بنظام آخر تعددي ديمقراطي أكثر عدالةً من سابقيه. نعم إننا على يقين من أن هذا النظام بتركيبته الحالية غير راغب وغير صادق وغير قادر على الإصلاح. وما الانتخابات النيابية الأخيرة إلا مثالاً ساطعاً على ما نقول. بالرغم من أن الحياة لن تتوقف عند هذه الانتخابات. وعلينا بذل قصارى جهدنا للوصول إلى مبتغانا. وما علينا إلا النضال الصبور لتحقيق آمالنا وطموحاتنا.
لم يستطع أن يقبل بنهاية الحوار التفاؤلية، فما كان منه إلا أن علّق قائلاً بعد أن معس عقب سيجارته بعصبية: أي عيش يا كديش..