تبيئة الماركسية
عمل قسم من الماركسيين العرب طوال النصف الثاني من القرن العشرين على ما سموه تبيئة الماركسية، أي جعلها بنتاً للبيئة العربية- الإسلامية، والجدير بالذكر أن أولئك الذين تشبثوا بهذا المصطلح «تبيئة الماركسية» هم في معظمهم مفكرون ودارسون على حواف العمل السياسي، أي أنهم نادراً ما انخرطوا في العملالحزبي وكثيراً ما نظروا له، ولعل مستندهم الأساس في بحثهم عن التبيئة هو كتابات الشهيد حسين مروة الذي لم يطرح التبيئة هدفاً لعمله وإنما حدد هدفاً مختلفاً هو إعادة قراءة التراث من وجهة نظر أيديولوجية واضحة لاستخراج العناصر الثورية منه وتفعيلها.. وهنا محاولة لمقاربة المفهوم في إطاره التاريخي بحثاً عنجدواه وجديته في آن معاً..
عوامل موضوعية
دخلت الماركسية عالمنا العربي- الإسلامي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الفائت مدعومةً بتغير موازين القوى على المستوى العالمي، من ظهور الاتحاد السوفييتي وانكفاء قوى الاستعمار التقليدي. كانت البرجوازية الصناعية في بداية تشكلها في منطقتنا، أي أن الظروف الداخلية لم تكن مهيأةً بعد لاستقبال الماركسية بروحهاالطبقية وإنما بروحها الوطنية العامة فحسب، وإن كانت الأحزاب الشيوعية قد ناضلت في تلك المرحلة وما تلاها ضد الإقطاع فإن جنودها في ذلك النضال وبنيتها لم تكن لتتجاوز البنية الفلاحية البرجوازية الصغيرة، أي أن النضال ذا النكهة العمالية الصافية كان مؤجلاً بحكم الظرف إلى حين نشوء طبقة عاملة وتطور وعيهالذاتها.
ترافق ذلك مع دعاية عالمية مكثفة ضد الشيوعية وضد الماركسية بدعوى تعارضهما مع الدين، ومع بداية الخمسينيات بدأ ظهور أحزاب قومية حملت برامج البرجوازية الصغيرة وبدأت باستقطابها على نطاق واسع مدعومةً من الاتحاد السوفييتي الذي أرخ لانهياره المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفييتي حين أطلقسياسة التعايش السلمي والطريق اللارأسمالي..
دخلت الأحزاب الشيوعية مع مطلع الستينيات عنق الزجاجة، فالأخ الكبير يقدم التطمينات ويدعم الخصوم الداخليين، والعدو الخارجي لا يترك وسيلة إلا ويستخدمها.. وهنا بدأ التبييء يأخذ محله في النقاش، ولعله ليس من المصادفة أن يترافق ذلك بصعود «المستشرقين العرب» وعلى رأسهم إدوارد سعيد، ومما زاد المشكلةتفاقماً الثورية الزائفة لجملة من المتمركسين ذويي البنية البرجوازية الصغيرة طبقياً والمثالية معرفياً، حيث شخصوا سبب ابتعاد الشيوعيين عن الشارع وتراجع قدرتهم على التأثير بأنه ناجم عن تدين المجتمعات المحلية والخطاب المغاير الذي تقدمه الشيوعية، ولا شك أن لهذا العامل تأثيره لكنه يصبح حاسماً حين تفقدالشيوعية صلتها الحسية المباشرة مع الناس بمعايشتها لهمومهم وآلامهم وتنأى بنفسها نحو صراع فكري- أيديولوجي مع الجماهير، ولذا كان الحل المفترض الذي لجأ إليه الكثير من المتمركسين هو محاولة توفيق ومصالحة مع الجماهير اكتست في كثير من الأحيان بمسمى التبيئة..
مشكلة معرفية..
يعاني تيار التبيئة، إن صحت تسميته كتيار، مشكلة معرفية كبرى في تعامله مع الماركسية، فهو إذ يحاول المصالحة والتوفيق فإنما يساوي بين الأيديولوجية والعلم، أي أنه يتعاطى مع الماركسية كأيديولوجية واجبة التطبيق، في الوقت الذي لا يمكن للأيديولوجية الماركسية أن تحتل مكانها المجسد تحت الشمس بغير وجودطبقة عاملة محلية تعي ذاتها وتخلق نمطها الأيديولوجي الخاص الذي لن يكون متماثلاً مع أي نمط أيديولوجي سابق. وحقيقة الأمر أن الهوة بين النظرية والواقع لم تجسر عبر التبيئة، وإنما قامت محاولات لقسر الواقع على تقبل النظرية، وقسر النظرية على ملامسة الواقع، ففي الوقت الذي تبقى فيه القوانين العامة للماركسيةصحيحة في أي بقعة ضمن الظرف التاريخي للرأسمالية، فإنها تتمظهر بشكل وحيد وغير مكرر في كل مكان، ولكيما نتحكم بالظاهرة علينا فهم القانون وفهم شروط التجربة التاريخية المحددة، وهذا نصل إليه من خلال استيعاب النظرية جيداً والذهاب نحو الاحتكاك المباشر بالواقع لصياغة الرؤية التي تربط العام بالوحيد..الأمر الذي لم تفعله التبيئة، لأن من حملها لم يكن الجسم الحزبي القادر على الاحتكاك بالواقع.. وعليه فإن أي تبيئة الماركسية يجب أن تنطلق من الواقع وليس من الأفكار، فتبيئة الماركسية ليست إلا تبيئة الحزب الماركسي، وتبيئة هذا الأخير إنما هي تمثيله لمصالح الطبقات المستغلة ونضاله المحموم لتحقيقها.. وبغير ذلكفإن الماركسية ستبقى بنت البيئة لأنها تفسر أوجاعها وتعرف جيداً أين تكمن مشكلتها، ولكن الماركسيين سيكونون غرباء لأنهم لا يعملون على نقل التفسير إلى تغيير..