دم الحولة في رقبة من؟!!

دم الحولة في رقبة من؟!!

تنطوي الصور الملتقطة عن مجزرة الحولة على العديد من الروايات بالمعنى الجنائي لامجال لمعالجتها في هذه السياق، إلا أن القراءة السياسية لهذه المجزرة اي قراءتها وفقا لمعيار (من هو المستفيد الحقيقي) يوضح عمق المسؤولية الوطنية  في هذه اللحظات الصعبة بشكل أكبر.

كان من المتوقع أن يتصاعد  التراشق الإعلامي بين النظام والكثير من قوى المعارضة حول مسؤولية أي منهما عن هذه المجزرة، فقد اعتاد الشعب السوري على تدني مستوى المسؤولية الأخلاقية والوطنية  عند كليهما أمام المنعطفات الصعبة التي واجهته .حيث يتعاطى كلا الطرفين مع الصور المفجعة والدماء النازفة بأنها نقطة سوداء يجب تسجيلها في سجل الآخر علّ صاحب النقاط الأكثر سواداً يعلن انسحابه بالراية البيضاء جراء الضربة القاضية التي تمثلها هذه المجزرة.لقد دأب المتشددون في كل جهة سواء جهة النظام أو المعارضة بضرب أي مسعى للتهدئة وعدم دفع الحل السياسي للأمام، فكل مبادرة للحل كانت تقطع برفع منسوب الدم إلى مستويات قياسية سواء عبر قمع الأجهزة الأمنية على الأرض من ناحية أو من خلال ممارسات الميلشيات المسلحة المعارضة من ناحية أخرى. لقد كان التفسير السابق لهذا السلوك المتطرف مبنياً على أساس أن كلا الطرفين يرتعد من حدوث الحل السياسي وما قد يستتبع من إجراءات بناءً على الحل من محاسبة للمسؤولين عن الدم المراق، أو ماقد يفضي إليه الحل من ضرب مصالح للفاسدين والناهبين داخل جهاز الدولة والمجتمع وإقصاء الشركاء الموضوعيين لهذه القوى أي إقصاء مصالح الأمريكان والغرب الممثلة بدعاة التدخل الخارجي في المعارضة.

إن سلوك الحل الأمني من النظام وما أفرزه لاحقاً من عنف وعنف مضاد، إضافة للرعاية السياسية والمادية التي يتمتع بها (الجيش الحر) من المعارضة اللاوطنية كانت مسؤولة بكل تأكيد عن غياب الحل السياسي حتى اللحظة، وبالتالي هي مسؤولة عن كل مايراق من دماء بغض النظر عن الجاني المباشر.إن مستوى العنف غير المبرر يدل على أن هناك وظيفة مطلوبة من زيادة منسوب العنف،فبعد إطلاق مهمة كوفي عنان والتي جاءت تعبيراً عن الميزان الدولي الجديد المنحاز لمصلحة حل سياسي يقوم على توافقات بين الفرقاء ، أراد البعض تصفيته. فالنظام  سعى لضرب هذا الحل من خلال استثمار التفجيرات باتجاه نفي وجود مطالب جدية والصاق تهمة الإرهاب بجميع القوى الناشطة على الأرض وبالمقابل لم يدخر مجلس اسطنبول أي جهد ليعلن أن السلاح هو الحل الوحيد وساهم بإعادة نهج الاغتيالات والتصفيات الطائفية.

إن الرفض الأولي للحل السياسي من القوى المتشددة في كلا الطرفين، تحول لاحقاً إلى  قبول على مضض أي أنهم قبلوا الحل السلمي عبر الحوار كي يتمكنوا من الاستيلاء والسيطرة على هذا الحل.  فالوزن الحقيقي للمتطرفين من كلا الجهتين داخل المجتمع السوري غير كاف ليعطيهم الحق في التدخل بالحل السياسي، وهذا مادفع بهم الى إيجاد معادل جماهيري واسع وذلك  من خلال التصعيد الدموي الذي يعدل مزاج الشارع باتجاه الحلول المتطرفة ، فهم يسعون للسيطرة على الحل عبر القتل الذي يحمل أبعادا طائفية ، بحيث يتم ضمان تحول الحل من خيار التغيير الديمقراطي الجذري لمصلحة الشعب الى خيار تقاسم الحصص بين أمراء لطوائف، مما يسمح بالتحكم ببنيان الدولة اللاحقة وإعطائه صبغة طائفية محددة تضمن هزالة البناء الوطني السوري لعقود ورهنه لتوافقات الدول الراعية.

إن التكاليف الباهظة التي يدفعها وسيدفعها المجتمع والدولة بعد هكذا أحداث تضاعف من شروخات المجتمع وتعصف أكثرمن ذي قبل في بنيان الدولة الوطنية.كما أن واقع هذه الأعمال يدلل بشكل واضح على ترهل جهاز الدولة وعدم قدرة الجهات المعنية التي تتحدث عن فاعلية الحل الأمني بالقيام بأبسط مهامها مما يضعها بموقع المدان والحلقة الأضعف، ممما سيؤدي إلى فقدان الثقة بين السلطة وجماهيرها المتبقية  بالحد الأدنى وسيولد استفهامات حول قدرة السلطة على حماية وجود جماهيرها عدا عن تساؤلاتهم حول مصالحهم الحقيقية.

إن أقل ما تتطلبه القضية  هو القيام بتحقيق جدي يمثل فيه ذوو الضحايا وهذا إجراء على المستوى الجنائي، ليصار إلى محاسبة الفاعلين علنياً،  لكن المسؤولية الوطنية اليوم تحتم التوجه نحو الحل السياسي بأقصى سرعة ممكنة، وإلا سنضع الشعب السوري أمام موجة التصعيد من القوى المتطرفة لتنتقم بأشنع الصور...