تشوهات الفكر السياسي في سورية
حسان ثابت حسان ثابت

تشوهات الفكر السياسي في سورية

لم يبق شيء في هذه البلاد لم يتعرض للتشوه خلال العقود الماضية، ومن جملة ما تشوه شكلاً ومضموناً كان الفكر السياسي، موالياً كان أم معارضاً، وأبرز مظاهر هذا التشوه كانت النظرة الأحادية الجانب لجملة المهام التي يفرضها الواقع الموضوعي خارج إرادة النظام والمعارضة على الشعب السوري وكل القوى السياسية،والتي نعتقد إنها مهام وطنية ومهام اقتصادية اجتماعية ومهام ديمقراطية، وفي حين رأى الخطاب الرسمي أن الأولوية في الظرف السوري هي للقضية الوطنية، وبالتالي يجب أن تخضع لها كل القضايا الأخرى، فالمهم هو الدفاع عن الوطن حتى ولو أصبح معظم أبناء الوطن عبيداً أو متسولين بسبب مستوى الحرياتالسياسية وعملية النهب الجارية.

رأى المعارضون أن الأولوية لقضية الديمقراطية، ويجب أن تخضع لها الجوانب والمهام الأخرى، حتى لو أدى ذلك إلى التفريط بالسيادة الوطنية التي هي ليست ملك النظام. وما زاد في التسطيح هو تجاهل أهمية القضية الاقتصادية- الاجتماعية، وشكل وطبيعة علاقات الإنتاج السائدةوطرائق توزيع الثروة، ولكن الوقائع الملموسة أكدت بما لا يقبل الشك أن المهام الموضوعية الثلاث متكاملة، وهي في العمق واحدة، وإن تجاهل إحداها يؤدي حكما إلى إجهاض تنفيذ الأخرى... ذاك النمط من التفكير بقي سائداً على مدى عقود في الخطاب السياسي السوري، إلى أن جاءت الأزمة الوطنية الراهنة لتكشفبؤس هذا المنطق المقلوب على رأسه، وما زال طرفا الصراع ينظران  إلى الواقع من زاوية الرؤيا السابقة نفسها، ليستمر التشوه، وليصبح جزءاً من مشكلة تشويه الوعي الاجتماعي، ولعل أبرز تجليات هذا التشوه اليوم هي:

 تشوه مفهوم الوطنية..

في سورية ثمة أرض محتلة، وثمة استحقاقات تتعلق بالجغرافيا السياسية تفرض نفسها على سورية كنظام وشعب، ونقصد بها وجود مشروع غربي قديم متجدد يتعلق بشرق المتوسط وثرواته وموقعه الجيوساسي وسورية في القلب منه، وبالتالي فإن المسألة الوطنية حاضرة بقوة الأمر الواقع، وإنكار وجود قضية وطنية أوحتى تجاهلها، هو إنكار مقصود للواقع الموضوعي. والمشكلة أن الخطاب الرسمي لبعض القوى في النظام، اتكأ على هذا الواقع وربط بين مصير النظام ومصير الوطن، فالوطن هو النظام، والنظام هو الوطن، وإذا كنت معارضاً أو حتى  على خلاف في هذه القضية أو تلك مع النظام، فأنت ضد الوطن، وغير وطني.. وماإلى ذلك من تبعات مثل هذا المنطق وصولاً إلى الاتهام بالخيانة الوطنية.

أما الوجه الآخر للتشويه فقد أتى ويأتي من طرف بعض قوى المعارضة،  فأي حديث عن الخطر على الوطن والوقوف ضد التدخل الخارجي، وهو قائم فعلاً ومعلن ولا يحتاج إلى إثبات، معنى ذلك أنك مع النظام، وإذا كان هذا الموقف وذاك يظهران على أنهما نقيضان، فإنهما من حيث المنطق هما وجهان لعملة واحدة، منطقبعض أنصار النظام غيّب صاحب الملكية الحصرية لسورية وهو الشعب السوري، وإن كان يحاكي مشاعره وثقافته أحياناً، إلا أنه فعلياً أبعده عن موقع القرار في قضية وجودية بالنسبة له، عدا عن أنه قزّم القضية الوطنية إلى مجرد جغرافيا، وتجاهل حاجاته المادية والروحية، أما منطق بعض المعارضة فيتجاهل الحديثعن وجود قضية وطنية، وإذا كانت هناك مشكلة ما فإنها حسب هذا المنطق نتيجة سلوك النظام في الوضع الإقليمي ودعم الإرهاب، ولانعتقد أن هذا الموقف لا يأتي كرهاً بالنظام فقط بل تبرئة و تسويقاً لمن يجثم ككابوس على صدر هذه المنطقة وشعوبها وثرواتها منذ قرن وأكثر!!

 تشوه في مفهوم المعارضة

أن تعارض نظام ما يعني أن تعمل على تغيير البنية القائمة جذرياً، وأول ما يحدد طبيعة نظام ما وبنيته هو علاقات الإنتاج السائدة والبنية الحقوقية والسياسية الناظمة لها، ودون العمل على تحقيق ذلك لا معنى لأي عمل معارض، وتبقى معارضة شكلية وتدخل ضمن لعبة كراسي الحكم... ليس معارضاً في سورية حتى ولوطالب بإسقاط الكون كله اليوم من لا يكون ضد لبرلة الاقتصاد كأحد أشكال ونتائج الفساد، وليس معارضاً من لا يرفع شعار المقاومة بكل معانيها ارتقاءً لحالة الممانعة التي لم تعد تناسب ظروف اليوم.. نعم لا يكفي أن ترفع شعار إسقاط النظام حتى تكون معارضاً، بل الأهم هو البديل المطروح هل هو بديل تقدمي بالنسبة إلىالمرحلة السابقة أم لا؟ فبديل الدولة الأمنية ليس اللادولة عبر استجلاب التدخل الخارجي كما تحاول المعارضة الخارجية السورية اليوم، إن أية معارضة حقيقية يجب أن تنطلق من الضرورات التي يفرضها الواقع الموضوعي على سورية، وهي بديل أفضل في القضية الوطنية، وبديل أفضل في القضية الاقتصاديةالاجتماعية، وبديل أفضل في قضية الديمقراطية. وما عدا ذلك نسخة كربونية عن الواقع الراهن، ولا ندري ستكون مقروءة باللغة الوطنية السورية أم لا؟

 تشوه مفهوم الديمقراطية

مفهوم الديمقراطية مثله مثل غيره تعرض هذا المفهوم إلى التشويه، فهناك من اختزل الديمقراطية إلى  هياكل شكلية فارغة من التأثير على الواقع تحت اسم المنظمات الشعبية ومجلس الشعب، وهي أبعد ما تكون عن الشعب، لا بل كانت ملحقة بجهاز الدولة التنفيذي، وأحياناً أحد أدواته في تسويق سياساته كما حدث فيتسويق السياسة الليبرالية وتبني اقتصاد السوق الاجتماعي والإجهاز على المكتسبات الاجتماعية التاريخية.. هذا من طرف النظام، أما السادة المعارضون فقزموا المفهوم إلى مجرد حريات سياسية دون أي محتوى اجتماعي، أي دون أن تكون في خدمة أغلبية المجتمع، ولأن الديمقراطية هي حكم الأغلبية، فلا معنىللديمقراطية إذا لم تكن في خدمة السواد الأعظم من الشعب السوري الذي لا يهمه شكل من يحكم واسمه وحزبه بقدر ما يهمه هل يؤمن حاجاته أم لا، وبالتالي ليس ديمقراطياً من يكون مع اقتصاد السوق الاجتماعي الذي دمر الاقتصاد السوري وأفقر أغلبية الشعب السوري.