تحرير الأجور.. الآن.. الآن، وليس غداً
أثبتت الحياة بكل وضوح أن الجماهير الشعبية في معاناتها اليوم تدفع ثمن السياسات الاقتصادية الليبرالية، وهي ليست مضطرة لذلك، والعدالة تكمن في أن يدفع ثمن الأخطاء من قام بها وليس من تضرر منها، فالجماهير تفهم السياسة دون فلسفة كبيرة من خلال لقمتها فقط لا غير،
وإن أصبح صعباً بل عسيراً الحصول عليها في وقت تتنامى فيه ثروات البعض بشكل استفزازي لم يسبق له نظير، ثروات هائلة لمصلحة قلة قليلة من الفاسدين الكبار، الناهبين لقوت الشعب بفسادهم الكبير عبر سياسات سارت في البلاد بخطوات حثيثة خلال الفترة الماضية نحو تحرير سوق البضائع والرساميل، فانعكس ذلك في الارتفاع المستمر لأسعار البضائع المختلفة ومواد الاستهلاك الشعبي بشكل غير مسبوق، ضاربة بقسوة مستوى المعيشة للناس والذي هو تحت المستوى المطلوب أصلآً. والسؤال لماذا التهافت على تحرير سوق البضائع والرساميل والإصرار بآن واحد على ضبط سوق العمل وتجميد الأجور؟؟ الجواب: لأن هذه السياسة الاقتصادية المطبقة منحازة بامتياز لمصلحة أصحاب البضائع والرساميل الذين يشكلون نسبة %10 من الشعب السوري، على حساب أصحاب قوة العمل والذين يشكلون %90 وهم الأغلبية الساحقة من هذا الشعب. إذاً ثبت بكل وضوح أن الليبرالية الاقتصادية أو ما يسمى اقتصاد السوق الاجتماعي تفسد أي مكان تدخله، ومنطقها في نهاية المطاف هو تحرير الأسعار والرساميل وتقييد الأجور، أما القول بأن السبب الحقيقي لارتفاع الأسعار المستمر هو سبب خارجي - كما يحب البعض أن يفهمنا- يعود إلى ارتفاع الأسعار العالمي، فهذا تبرير لجزءٍ من ارتفاعات الأسعار، وتأثير السبب الخارجي لا يتعدى حدود %20 إلى %30 من إجمالي الارتفاعات، والدليل على ذلك هو أن اقتصاديات دول أخرى تتأثر مثلنا بارتفاع الأسعار العالمي لم يصل الحد الأقصى لارتفاع الأسعار فيها أكثر من %15 إلى %20 من مستوى الأسعار السابق. الأمر العجيب الآخر بالنسبة لهذا التبرير أنه ينسى أننا مصدرون لمواد خام هامة ارتفعت أسعارها في السوق العالمية، ويجب أن ينعكس ذلك إيجابياً علينا محيداً جزءاً من ارتفاعات أسعار مواد استيراد أخرى. إن القول إن سبب ارتفاع الأسعار خارجي هو هروب من الحقيقة وإصرار على عدم معالجة الأسباب الداخلية، فإذا كان السبب الخارجي مسؤولاً عن %30 من ارتفاع الأسعار فمن المسؤول عن الـ %70 الباقية؟، وما المبرر لانسحاب الدولة الحاد من السوق إنتاجاً وتوزيعاً؟، وما المبرر لفقدان الدولة دورها الاقتصادي والاجتماعي لمصلحة تمركز الثروة الاجتماعية الناتجة عن قوة العمل بأيدي قلة قليلة من طواغيت المال والفساد والمرتبطة أصلاً بمنظومة عولمة الفساد والرأسمال العالمي؟؟
أليست هذه القلة القليلة تجسيداً فعلياً للاختراق الكبير وللسكين المضروبة في ظهر الوطن؟ أليست هذه القلة هي فعلياً القلة «المندسة» وهي ممرات العبور للغزو الخارجي الذي يريد الإطاحة بالدولة والمجتمع عملاً بالنموذج العراقي أو الليبي؟
إن تخويفنا بالقول بأن الأولوية الآن هي للحفاظ على الاستقرار والأمان في البلاد انطلاقاً من الشعار القائل والمعمول به منذ زمن طويل: (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) وبانتهائها يتم معالجة الأسباب الداخلية، هو ضرب من الغباء المطلق أو العمالة المطلقة!.. فهنا لابد أن نعي أن السوريين دخلوا الأزمة الراهنة لا اليوم ولا قبل سنة ولكن يوم قتل الثور الأبيض.. يوم استشرى فساد قلة وصل فسادهم اليوم إلى حدود بيع القضية في سوق النخاسة العالمي وتحت شعارات القضية ذاتها.. لا يمكن الفصل بين الجانب الاقتصادي والجانب الوطني فهما وجهان لعملة واحدة..
وعليه فإن أولى الخطوات (الوطنية- الاقتصادية) لحل الأزمة الراهنة يجب أن تحقق التالي:
-1 إعادة تقييد حركة الأسعار والرساميل، الأمر الذي سيحمي قوة العمل من استمرار افتراسها من كليهما، وهو أمرممكن لكنه يتطلب إرادة عالية المستوى تسمح بمواجهة مراكز المستفيدين من حركة الأسعار والرساميل إن كان ذلك في المجتمع أو في جهاز الدولة، أي مراكز الفساد الكبيرة والرئيسية، فلم يعد مقبولاً تأجيل المعركة الوطنية الحاسمة ضد الفساد.
-2 تحرير قوة العمل عبر تحرير الأجور أسوة بالتحرير الذي أصبح أمراً واقعاً في مجال البضائع والرساميل والأسعار، وتحرير الأجور يتطلب وضع مؤشر حقيقي للأسعار يجري التعويض على أساسه عن تآكل مستوى المعيشة، ويجب أن يعمل هذا المؤشر بشكل دائم شهرياً وأن يحمى بقانون ملزم للجميع وخاصة الحكومة كما نص الدستور الجديد. ويتطلب تحرير الأجور من جهة أخرى أن يسمح لأصحاب الأجور بالدفاع عن حقوقهم والتعبير عن مطالبهم بكل الأشكال بما فيها حق الإضراب عن العمل عملاً بالدستور الجديد. إن تحرير الأجور بشكل واقعي وعملي هو صمام أمان لحماية الجبهة الداخلية وصيانة الوحدة الوطنية
-3 يجب أن تعود الدولة لتعويض أصحاب الأجور بدعم محترم يؤمن لهم العيش الكريم.
إن سياسة افتعال واختلاق الأزمات المدبرة مسبقاً، والهادفة لتسويق وتمرير مخططات وسياسات تجار الأزمات والحروب والفساد والنهب الممنهج، شكلت المقدمات الحقيقية للأزمة الوطنية، وساهمت في تجميع الحطب وإشعاله على طول البلاد وعرضها، وتسعير لهيب الأزمة لمصلحة قوى الفساد والتطرف من كل شاكلة ولون مساهمة مع العدو الخارجي في إدامة الاشتباك الداخلي العنيف والذي يولد كل يوم خسائر كبيرة في البشر والحجر والأرزاق ويهدد الوطن أرضاً وشعباً..
إن عدم تحرير الأجور وتراكم الأرباح الفاحشة لأصحاب البضائع والرساميل وكبار التجار والرأسماليين الذين لا يتجاوزن نسبة ال%10، أدى إلى إفقار %90 من الشعب السوري، وهم أصحاب الأجور المنتجون للثروة الاجتماعية بسواعدهم وأدمغتهم، مع العلم أن هذه الأغلبية المسحوقة يطلق عليها مع سابق الإصرار والتعمد تسمية «الموالاة» و«المعارضة» بقصد تشويه طبيعة الصراع الطبقي، وتفتيت القوة المتضررة حتى لا تتوحد وتنظم حركتها وصوتها ضد تحالف فاسدي ومتشددي النظام والمعارضة الذي يذهب بالوطن والمواطن نحو الحرب الأهلية والتقسيم والخراب خدمة للعدو الخارجي، وجهان لعملة واحدة هي الفساد..
على الطبقة العاملة وجماهير الشغيلة أن تعي أن معركتها الحقيقية باتجاه المطالبة بالتوزيع العادل للثروة لمصلحتها، لأنها المنتج الحقيقي لهذه الثروة فما اغتنى غني إلا بفقر الطبقة العاملة!