تشوّهات الفكر السياسي.. مرة أخرى
لم يبق التشوه المشار إليه في مقالنا السابق الذي حمل العنوان ذاته، ما يمكن أن ندرجه في إطار تخلف المستوى المعرفي عن فهم استحقاقات الوضع السوري، بل تعدى ذلك إلى التطابق في وجهات النظر بين النظام والمعارضة، فالنظام كما هو معروف، حسم خياره منذ ما يقارب العقد من السنين باتجاه تبني اقتصاد السوقالاجتماعي في معالجة القضية الاقتصادية الاجتماعية، وأنتج ذلك ما أنتج من انقسام اجتماعي حاد بين الأغنياء والفقراء بكل ما تبعه من تدمير شبكات العلاقات الاجتماعية التقليدية نحو عقلية المجتمع الاستهلاكي التي فرضت نزعة الخلاص الفردي والأنانية، فكيف تم التعاطي من جانب المعارضة العتيدة مع الجانبالاقتصادي في الوضع السوري؟.
المثير أن كل الكيانات السياسية التي تتباهى بكونها سباقة في المعارضة، لم تطرح غير اقتصاد السوق في معالجة القضية الاقتصادية الاجتماعية، أي أنها من حيث تدري أو لا تدري تدور في فلك النظام في هذا الجانب، أي أن الادعاء بالمعارضة لا يتجاوز هنا سوى ما هو شكلي، والمشكلة هنا ليس في الخيار ذاته أي فيالجانب الاقتصادي المجرد، بل في انعكاساته على القضية الوطنية والديمقراطية التي تشكّل أسّ مشروع المعارضة. فمجرد تبني اقتصاد السوق الاجتماعي (اللبرلة) في بلدان العالم الثالث ومنها سورية، يعني نسف الديمقراطية جملة وتفصيلاً، لأن مجرد تبني هذا المفهوم يفترض الاعتماد على الطبقة البرجوازية، ولأنالبرجوازية السورية الراهنة طفيلية في البنية والتكوين، الأمر الذي يعني أنها لا تساهم في عملية الإنتاج الوطني ويعني أيضاً أنها لا تستطيع أن تؤمن حالة التوازن الاجتماعي، لذا فهي مضطرة أن تلجأ إلى القمع حتى تحمي مصالحها، فالاستبداد هو الوجه الآخر لليبرالية في بلدان رأسمالية الأطراف، ومن هنا فإن من يتبنىلبرلة الاقتصاد في ظرف كالظرف السوري وبغضّ النظر عن نياته، لا يمت إلى الديمقراطية بصلة، لا من جانب موضوع الحريات السياسية التي تشكل جوهر الخطاب المعارض، ولا من ناحية تأمين الحاجات المادية لأغلبية الشعب السوري، لاسيما وأن تبني هذا الخيار أصلاً من جانب النظام جاء في سياق اللعب علىالتوازنات ومحاولة لإرضاء الغرب الرأسمالي أملاً في تهيئة الاقتصاد السوري للاندماج بالشراكة الأوربية المتوسطية، الأمر الذي يعني حكماً فرض شروط في الجانب السياسي وفيما يتعلق بقضية الصراع العربي الإسرائيلي انطلاقاً من أهمية الكيان الصهيوني في تنفيذ المشروع الرأسمالي الغربي في المنطقة، وعدا عنذلك فأن اللبرلة أنتجت ما يمكن أن نسميهم فئة حاخامات الفساد الذين لا تُرَد كلمتهم ولا يهمهم قانون أو دستور، فالقانون الوحيد الذي يتحكم بالتطور الاقتصادي هو قانون الربح ولاشيء غيره، وله يجب أن يخضع كل شيء، وفي هذا الإطار يجب أن نفهم سلوك الميليشيات المسلحة لقوى الفساد ضمن النظام في إراقة الدماء،واستباحة الحرمات والأعراض كمقدمة لاستباحة الأرض، وبعبارة أوضح: فإن الليبرالية في بلدان رأسمالية الأطراف هي الأب الروحي للفساد، والفساد هو الأب الروحي للقمع في ظل التقسيم الدولي الراهن للعمل، أي في ظل هيمنة الرأسمال المالي على مقدرات العالم، فكل من يعمل على تسويق الليبرالية الاقتصادية فيبلدان الأطراف يؤسس حكماً للقمع ويؤسس حكماً للخيانة الوطنية.
النظام والمعارضة وموضوع الأقليات القومية والدينية
بداية ومنعاً لأي التباس، نذكّر بأن استخدام عبارة الأقلية هنا لا تتجاوز المفهوم العددي، ولا تعني الانتقاص من أهمية أحد ودوره في حياة البلاد وحقوقه، لا في الماضي، ولا في الظرف الراهن، ولا في المستقبل، فكيف تعاطى كل من النظام والمعارضة مع هذا الملف؟.
النظام يعمل منذ عقود في هذا الموضوع دون الأخذ بعين الاعتبار أن موضوع الأقليات بالمحصلة هو قضية وطنية تهم كل السوريين، وأنها تشكل جزءاً من قضية الديمقراطية على مستوى البلاد، بل الذي حصل أن هذه الأقليات، قومية كانت أو دينية، تعرضت إما للتمييز أو الإقصاء، أو التهميش والتطنيش في أحسنالأحوال، وإذا أخذنا الأكراد السوريين كنموذج، فإن سياسة التمييز القومي بحقهم عبر عقود كانت السمة الأبرز باستثناء ممارسات وسياسات آنية تتعلق بتوازن القوى ضمن المجتمع السوري وطريقة تعاطي النظام مع هذا التوازن، إلى أن انطلقت الحركة الاحتجاجية، فبادر النظام على الفور إلى حل مسألة المجردين منالجنسية بالعقلية السابقة، أي ليس على أساس أنها جزء من المسألة الديمقراطية العامة في البلاد.
أما بالنسبة للأقليات الدينية «المسيحيين» نموذجاً، كان أسوأ ما بدر هو مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي أصدرته حكومة العطري، والذي بني على استخدام مقولات ومصطلحات لا تمت إلى العصر ومفاهيمه والظرف السوري بصلة مثل «أهل الذمة» وما شابه.. والتي شكلت انتقاصاً من حقوق مواطنين سوريينمثلهم مثل غيرهم، ومرّ الأمر مرور الكرام دون أن يسأل أحد لماذا صدر مثل هذا المشروع؟ وماذا كان القصد منه؟ والمثير في الأمر أن هذا المشروع الذي صدر عن أحد أهم مفاصل النظام «الحكومة» يحاكي إلى حد كبير مشروع حزب الإخوان المسلمين في موضوع الأغلبية والأكثرية على أساس ديني أو طائفي، ودورالدين في الحياة السياسية.
وتبدو المفارقة أيضاً في موقف معارضة اسطنبول من قضية الأكراد حيث تصريح برهان غليون على أساس أنهم لاجئون مثلهم مثل مسلمي فرنسا مثلاً!؟
والخطير في مثل هذا الطرح ليس الإساءة إلى أحد مكونات النسيج الوطني السوري فقط، بل هو أنه يأتي إرضاءً لمن قدّم برهان غليون إلى واجهة المجلس الوطني كديكور بغية تسويق المجلس العتيد لدى أوسع أوساط الشعب السوري باعتباره وجهاً «ديمقراطياً»، أولئك الذين يحاولون احتواء كل المكونات تحت راية وحدةالدين، أو حتى الطائفة.
ولا ينفعنّ أحداً هنا الاعتذار أو الهروب من مثل هذا التخبيص السياسي إلى تخبيص من نوع آخر كالمزاودة وتضخيم مسألة هذه الأقليات وصولاً إلى التأسيس لفكرة المحاصصات القومية أو الدينية أو الطائفية، كأحد البدائل الوهمية عن الاستبداد والإقصاء والتهميش، إن منطقة شرق المتوسط لم تشهد استقراراً منذ آلافالسنين ولا توجد شعوب غريبة أو لاجئة باستثناء الكيان الصهيوني، وكل من يعيش على هذه الأرض هو من الشعوب الأصيلة وما يجمعها أكثر مما يفرقها، سواء كان ذلك برغبة البعض في النظام أو من على شاكلتهم في التفكير والمنطق من جانب بعض المعارضة، أو خارج رغبتهم، والخيار الوحيد هو العمل على أساسوحدة المصير والمصالح على أساس الاعتراف المتبادل بالحقوق، بعيداً عن الثنائية المدمّرة للكل التي يُعبر عنها تارة بالإقصاء والتمييز، وتارة بالمحاصصات الفئوية.