ماذا بقي لـ«الإخوان المسلمين»..؟!
لم يكن حجم التناقضات التي عانت منها شعوب منطقتنا، ومدى عمقها، خفيّاً على الولايات المتحدة الأمريكية. الكثير من المؤشرات التي سبقت ظهور التحرّكات الشعبية العربية، في تونس مصر عام 2010، كانت كافية لتؤكّد للأمريكان ضرورة صياغة وتقديم بدائل جديدة، مرتبطة بمصالحها، للأنظمة العربية والإقليمية المتهالكة؛
أبرز تلك المؤشرات تمثّلت في حركة الاحتجاج في الشارع العربي والإسلامي احتجاجاً على الاعتداءات الصهيونية في حرب تموز 2006، وحرب غزّة 2008، وعلى مواقف بعض الأنظمة العربية المتخاذلة منها، بالإضافة إلى العديد من التحرّكات الطبقية والسياسية في بعض البلدان العربية والإقليمية، كإضرابات المحلّة العمالية في مصر عام 2008..
وجدت الولايات المتحدة في حركة «الإخوان المسلمين» ضالتها كـ«بديل» عن أنظمة المنطقة المأزومة، ففي إطار ما يوصف بـ«المد الإسلامي»، يمكن لهذا البديل، من وجهة النظر الأميركية، أن يتمكّن من تفريغ الغضب الشعبي، من خلال طمس التناقضات الأساسية، الطبقية والوطنية، ودفع مختلف التناقضات الثانوية إلى السطح، الدينية والطائفية، مع إجراء ما يلزم من خطوات ترقيعية تستر عيوب الأنظمة «البائدة»، التي هي عملياً لم تبرح مكانها كبرنامج وسياسات. بدأ الدعم الغربي، السياسي والإعلامي، يتدفّق على تنظيمات حركة الإخوان المسلّمين، في مصر وسورية وبلدان المغرب العربي، ولعبت تركيا وقطر دور الوكلاء والممولين في هذا الدعم، ليس مع بداية ما أسموه «الربيع العربي»، بل قبل ذلك بسنوات، فقد اتضح مسار هذا الدعم غير مرة في مفاصل معينة، كالضغط على نظام مبارك لضم نواب من الإخوان إلى برلمانه، والإشارات المتكرّرة في الخطاب الأمريكي التي تظهر الإخوان تياراً معارضاً وشعبياً وحيداً.
لم يَحُل وصول الإخوان إلى الحكم في غير بلد، أبرزها مصر وتونس، دون استمرار تأثير التناقضات التي سبقت وصولهم إليه، والتي كانت سبباً في ظهور الحركة الشعبية في تلك البلدان، لا بل تعمّقت تلك التناقضات مع استمرار محاولات تأجيل أو منع حلّها، فإذا أخذنا مصر نموذجاً، لم يحقّق حكم الإخوان لمدّة عام كامل أي تقدّم على المستوى الاقتصادي- الاجتماعي أو الوطني، وعلى المستوى السياسي أيضاً فشل الإخوان في تحقيق الاستقرار و إرساء أسس وتقاليد ديمقراطية، بل على العكس، فقد أدخلهم برنامجهم الرجعي، اقتصادياً ووطنياً، في مواجهة مع شرائح واسعة من المجتمع المصري، فضلاً عن دخولهم في صدام مع المؤسسة العسكرية التي كانت قد حازت للتو على دورٍ مؤثرٍ في ميزان القوى الداخلي والخارجي الجديد، الأمر الذي أدّى إلى ظهورٍ ثانٍ باهر للحركة الشعبية في 30 يونيو 2013، جرى بنتيجته عزل مرسي عن الحكم. وخلاصة القول، إن التناقضات ظهرت مضاعفة مع تجربة حكم الإخوان المسلمين، لكونهم استخدموا الطريقة السابقة في الحكم، التي شكّلت إحدى مقومات ظهور الحركة الشعبية.
جرياً على عادتها، في تبديل أدواتها بقدر عالٍ من البراغماتية، بدأت أمريكا بالتراجع عن تعويلها على حركة الإخوان كبديل للحكم، مع استمرار دعمها لتأمين أغراض أخرى، كالاستفادة من خدماتها كإحدى أدوات الفاشية؛ إذ لم تعد تصلح هذه الحركة كنموذج للحكم، بعدما أثقلتها وتثقلها تركة الطلبات الأمريكية في تمثيل مصالحها. هذا الأمر يؤكّد أن أمريكا خسرت الجولة الأولى في امتحان فرض بدائلها المباشرين للحكم، ما سيدفعها إلى انتقاء بدائل غير مباشرة؛ بمعنى أنها، على الأرجح، ستلجأ إلى التنازل عن فرض سياساتها بالكامل، من خلال أنظمة كاملة الوفاء للمصالح الأمريكية، بل ستسعى لتطبيق سياساتها من خلال محاولة التحكّم ببدائل صاعدة موضوعياً، لجهة تحويلها إلى أنظمة ليبرالية مرتبطة بالغرب، ولكن مموهة بعباءة وطنية وطبقية مقبولة، وليس أدل على ذلك من سعي الولايات المتحدة، من خلال السعودية، إلى استمالة الجيش المصري، الذي أطاح بـ«بديلها»، والتشويش على تقاربه مع الأطراف الدولية الكبرى الصاعدة، مثل روسيا. هذا الأمر لا يفرض فقط على الولايات المتحدة القطع مع حقيقة أن الإخوان لم يعودوا يصلحون كبدائل للحكم، بل ويفرض عليها المشاركة في «الهجوم» على الإخوان، على ألسنة الأنظمة والقوى الإقليمية المرتبطة بها، على شاكلة «هجومها» على نظامي تونس ومصر عام 2010.