الدولة السورية.. وإشكالية التناقض بين البنية والوظيفة!
في سياق متابعة مواقف المثقفين العرب من الأزمة السورية، نجد أن قسماً منهم قد حسم أمره وباع قلمه في سوق النخاسة النفطي، ونجد أن قسماً آخر يبدي -محقاً- قلقه على سورية، ويدعو إلى استنفار قومي ووطني للتصدي لـ« المؤامرة».. كيف؟
وإذا كان من العبث صرف الوقت والجهد في الجدل مع النموذج الأول، بعد أن اصطفّ في موقع التسوّل والارتزاق على عتبات أمراء النفط، ومراكز أبحاث الديمقراطية «المحمولة جواً» على أجنحة «توماهوك»، كونه خرج من التاريخ باعتبار أن البنية التي ينتمي لها هؤلاء أصبحت في حكم الماضي، فإن البعض في النموذج الآخر وبداعي الحرص على الدور السوري في الصراع العربي- «الإسرائيلي» راح يبحث في تفاصيل الأزمة السورية من حيث أسبابها ومقدماتها وطريقة الخروج منها، وصولاً إلى تقييم دور وأداء المعارضة السورية، بما فيها المعارضة الوطنية الداخلية، وتحديداً حزب الإرادة الشعبية، وعلى وجه الخصوص دور ونشاطات وموقع الرفيق د.قدري جميل، تجاهلاً مرةً، وتشويهاً مرةً، وتشكيكاً مرةً ثالثة، بما في ذلك الوصول مؤخراً من واحد من هؤلاء الوعّاظ إلى حد الطعن بوطنية موقف الحزب وقياداته.
ومن دون الهبوط إلى مستوى وشكل المنطق لدى أصحاب «المواعظ الوطنية» التي تصدر لنا من منبر اتفاقيات «وادي عربة»، يمكن للوهلة الأولى اعتبار أن الأمر مشكلة تتعلق بمنهج التحليل التقليدي الذي دأب عليه- وما زال- كل من «اليمين» و«اليسار» العربي في قراءة الظواهر الاجتماعية الذي سرعان ما كشف عن تهافته وعجزه في ظل أزمة انعطافية ذات بعد تاريخي في مساري الماضي والحاضر.. ولكن أين يكمن الخلاف؟
مكمن الخلاف..
لا خلاف مع الخطاب المعلن لهؤلاء في أهمية الحفاظ على الدور التاريخي لسورية، ولا خلاف كذلك على ضرورة استمراره، ولكن الخلاف يكمن في كيفية تحقيق هذه المهمة الوطنية والقومية والأممية في الظرف التاريخي الراهن، وماهية الدور الوظيفي الجديد لسورية، ومن هي القوى المؤهلة للعب هذا الدور، وما هي الأدوات، ومن هو الحامل الاجتماعي، وما هي الآجال الزمنية المسموح بها، وبعبارة أوضح ما هو البرنامج السياسي المطلوب؟ ويرى هؤلاء «الغيورون» على سورية ودورها ضرورة الاصطفاف مع النظام واعتماد طريقته في التعاطي مع الأزمة، تحت راية مكافحة الإرهاب الأسود، ليصبح كل ما عدا ذلك مؤجلاً!!؟؟
لسنا في وارد تقييم كل مسار التطور التاريخي للنظام السياسي في سورية ضمن هذه المساحة، ولكن ما بات مؤكدأ أن طريقته السابقة في التصدي حتى للمهام الوطنية العامة بات يستحيل الاستمرار بها في ظل ظهور الجنون الفاشي، بما في ذلك قضية الحفاظ على وحدة البلاد وسيادتها (الدور الممانع)، ناهيك عن البعد الاجتماعي والديمقراطي للقضية الوطنية في سورية. وما يؤكد هذه الحقيقة هي مآلات الأزمة نفسها حيث وصلت إلى مستوى أن تكون سورية أو لاتكون، ولا يكفي هنا أن يعلق الوعّاظ المشكلة على مشجب التدخل الخارجي متعدد الأشكال، بل المشكلة تكمن في عدم التهيئة لمثل هذا الوضع الذي كان متوقعاً رغم التنبيه المتكرر من القوى الوطنية، وتحديداً التيار المستهدف اليوم من أصحاب هذه النخوة الوطنية الطارئة.
ليست مؤامرة!؟
ما نشهده من تدخل خارجي وقح في الأزمة السورية، من مختلف المراكز الإقليمية والدولية المعادية، ليست مؤامرة بالمعنى المبتسر الذي يقدمه لنا الوعّاظ «المقاومون»، بل هو مشروع معلن واضح ومصرّح به، يتكثف بمحاولة إعادة رسم خريطة العالم بما يتوافق مع مصالح الرأسمال المالي العالمي، مشروع كان موجوداً دائماً، وتمظهر بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بأدوات وطرق قديمة وجديدة، وتجلى بـمحاولة «لبرلة» العالم كلهُ وإشغاله بصراعات مركبة، سواء بالتدخل العسكري المباشر«الاحتلال» أو التدخل العسكري غير المباشر عبر الشركات الأمنية «الملتحية» تحت راية «الجهاد» أو كازينوهات الليبرالية السياسية بداعي مواجهة «الاستبداد»، وما سخر لها من وسائل إعلام تستطيع أن تقنع المتلقي بما تملك من أدوات تأثير بأن الملك حسين مثلاً ملك «يساري»، وأن«قطر» دولة شقيقة؟!! المشكلة ليست بقوى الرأسمال المعولم والمتوحش التي طالما كانت الحرب والنهب جزءاً من نسيجها العضوي ومقومات وجودها، فالرأسمال لاقيمة عنده لحقوق الآخرين، بل بمن تجاهل هذه المستجدات الدولية في حينه، في بلد مستهدف بحكم الجغرافيا السياسية على الأقل. ليس ذلك فحسب بل حاول أن يتماهى معها وراح يعتمد سياسات تولّف البلاد لـ«الشراكة الأوربية المتوسطية» وتفتح أبواب البلاد وسمائها وبحرها لدخول البضائع الأجنبية المنافسة لصناعات وطنية متوارثة أباً عن جد، وتمنح حق استملاك الأرض لـ«أبناء وبنات العمومة» من شيوخ النفط ممولي الإرهاب حالياً، في حين منعت تلك السياسات هذا الحق عن المواطنين السوريين، المشكلة عند من دمّر وبشكل منهجي الزراعة، وصار يستورد القمح التي كانت سورية موطنه الأول وطالما كانت تفتخر بأن مخزونها الاستراتيجي يكفي لسنوات وسنوات.
هل نسترسل ونتحدث أكثر فأكثر؟ ونتحدث عن تغييب الحركة السياسية، والتعويل في محاولات تأمين التوازن الاجتماعي على بنى تقليدية من شيوخ عشائر لا يعترف بمشيختهم حتى زوجاتهم، أو الاعتماد على رجال دين من «المؤتلفة قلوبهم»، ألم يصبح أغلبهم دعاة «جهاد» في ظل «الثورة»؟؟ هل نذكر الأسماء والوقائع؟ ألا يكفي كل ذلك لسقوط روما نفسها أردنا ذلك أم لم نرد، تآمروا علينا أم لم يتآمروا؟؟... الموضوع هنا ليس موضوع رغبات ونوايا.. بل قضية قوانين موضوعية تفعل فعلها في الحقل الإجتماعي خارج إرادة البشر، وانفجرت الأزمة ووقع المحظور وأصبحت البلاد على حافة الهاوية، وليس في اليد خيار سوى الحسم، أما من يشكك بذلك حسب رأي الوعّاظ فهو لا يفهم طبيعة المعركة..!
ما ينكره أو يتجاهله هؤلاء أو يتجنبون الحديث عنه هو أن البنية السياسية القائمة وضعت بسبب سياساتها قصيرة النظر كل مقدمات تفجير الأزمة، وأن هذه السياسات هيأت تلك التربة الخصبة لهذا المستوى من التدخل الخارجي، والذي يدعو إلى التساؤل هو استمرار العمل بتلك السياسات، أي إدارة الأزمة بتلك الوسائل والسياسات التي أنتجت الأزمة. وليس باليد مرة أخرى سوى تعليق الأزمة على مشجب التدخل الخارجي فقط. إن كل بنية تحمل عوامل فنائها أو تقدمها واستمراراها في داخلها، وتأتي العوامل الخارجية لتلعب دوراً سلبياً أو إيجابياً. ونعتقد أنه من العبث في دولة مثل سورية التفكير بعوامل خارجية إيجابية، لابل كان وما زال من الكفر الوطني تماماً التراخي والاستهانة بموضوع التدخل الخارجي لحظة واحدة.. وليس بعد الكفر حرج، بمعنى آخر أن النظام ببنيته القائمة وطريقة تفكيره غير قادر لوحده على حل الأزمة بغض النظر عن النوايا، وبالتالي غير قادر على الحفاظ على دور سورية الإقليمي ودعم المقاومة، الذي يتباكى عليه الأخوة الوعّاظ، أي أنه ثمة تناقض بين البنية والوظيفة المفترضة للنظام، الأمر الذي يعني ضرورة إحداث تغييرعميق وجذري في بنيته وتفكيره، ولهذا بالضبط كان البرنامج والموقع المعارض الذي يلومنا عليه الواعظ العتيد.
الحسم العسكري غير ممكن..لماذا؟
من جملة ما يأخذه علينا السادة الوعّاظ هو التأكيد الدائم على عدم امكانية الحسم العسكري وبالتالي الدعوة الى الحل السياسي كممر إجباري لموضوع حل الأزمة الوطنية، مع العلم أن هذه المسألة أصبحت موضوع إجماع دولي وإقليمي بما فيها الموقف الرسمي للنظام نفسه.
لا شك أن المسلحين القادمين من الخارج ومن في حكمهم من السوريين من قوى تكفيرية لا تجدِ معهم سوى لغة المواجهة المباشرة، لكن بالتأكيد أيضاً هناك قوى سورية مسلحة انزلقت الى العسكرة لأسباب عديدة، ومنها أسباب انتقامية ثأرية أخذت طابع ردود الأفعال على سلوك بعض الأجهزة الأمنية، يمكن تحييدهم على الأقل، وهذا ما كان يؤكد عليه حزب الإرادة الشعبية ود.قدري جميل منذ بداية العسكرة. وجاءت هدنات حمص وبرزة والمعضمية وداريا وببيلا وغيرها لتؤكد هذه الحقيقة، ولتحمل من الدلالات والمعطيات الملموسة بأن ليس كل المسلحين عملاء وقادمين من الخارج، وبأن الحوار والتفاهم ممكن معهم، الأمر الذي يعني تقديم مساعدة جدية للجيش العربي السوري في مهمته لكي يتفرغ لمواجهة التكفيريين واستئصالهم. واستناداً إلى هذه التجربة الملموسة فإن الوقوف مع الجيش كضامن للوحدة الوطنية، وضد قوى الإرهاب والتكفير لا يكون فقط بالأغاني الحماسية والخطب العصماء والوطنية الشعبوية والنوايا والرغبات، بل من خلال الإسراع بالحل السياسي أيضاً ليزيح عن كاهله جزءً من العبء، الأمرالذي أكدته هدنات محدودة هنا وهناك فكيف إذا كان من خلال مؤتمر دولي، وفي ظل توازن قوى دولي آخذ بالتشكل ضد أعداء سورية يسمح بأن تتوسع تلك الهدنات إلى الانتشار على كامل الأراضي السورية؟ هل يريد هؤلاء الوعّاظ توسع دائرة المعارك و استمرار استنزاف الجيش في مواجهات مفتوحة مع جماعات تلقى الدعم والتمويل من كل قطاع الطرق الدوليين الذين يريدون استمرار الوضع الحالي وصولاً إلى تدمير الدولة السورية؟
بالمختصر، كما لم يشفع للنظام مستوى العلاقات مع تركيا وقطر والسعودية سابقاً، ولا فتحه الطريق أمام مدحلة اللبرلة الاقتصادية في عدم التدخل بالشأن السوري، فإنه في أزمة بهذا المستوى من التدويل لاتفيد «العنتريات» في الصحافة، ولا تلطي هؤلاء الوعاظ خلف فكرة المقاومة دون الدعوة إلى توفير مقوماتها، بل المطلوب فهم عميق للأزمة بكل تعقيداتها، وتغيير زاوية الرؤية إلى الحدث، والصلابة الواقعية في مواجهة الأعداء، والاعتماد على الشعب كل الشعب السوري وزجه في معركة الوجود، من خلال الإقرار بحقه في التغيير الوطني الديمقراطي.