أجوبة «غير قلوية» على أسئلة «حامضة»..!
على الرغم من حقيقة كونها متراكبة ومتشابكة ومتفجرة في لحظة دولية غير مسبوقة، يبدو أن الأزمة السورية تغري بعض المراقبين والمحللين وحتى السياسيين لاستسهال الانجرار وراء التبسيط الذي يلجأ له طرفا الأزمة المعومان إعلامياً: النظام في سورية بروايته عن أنها «مؤامرة صرفة»، ومعارضة «الخارج» بروايتها عن أنها «ثورة شعبية بحتة»
ليبدأ هؤلاء اتخاذ أحد التوصيفين/ المسطرتين منطلقاً لتحليل الأمور وتحديد المواقف وتوصيف الأطراف والجهات الأخرى بناءً عليها، ودائماً على خلفية الخضوع لتأثير الماكينات الإعلامية والسياسية لدى هذين الطرفين أو الداعمة لهما واستقطاباتها المتناقضة، كل من منظوره..!
واستناداً إلى حقيقة التشابك والتراكب بين استحقاق التغيير المتراكم داخلياً والاستهداف التآمري التقليدي والمتوقع على الدوام خارجياً، بالتزامن مع التحولات في المشهدين الإقليمي والدولي منذ تفجرها، وبعيداً عن تلك الاستقطابات الإعلامية والسياسية المتناقضة، يمكن القول، بما سيحسمه التاريخ لاحقاً، إن واحدة من أهم خاصيات الأزمة السورية أنها تقدم في أحد أوجهها نموذجاً لمعارضة وطنية «داخلية» تناضل للتغيير الجذري في الداخل بمقدار مناهضتها للتدخل الخارجي بمختلف أشكاله، أي أنها متماهية مع المطالب الشعبية الأساسية لضرورة التغيير في وجه النظام ومثبتة لبوصلة الحركة الشعبية السلمية وغير المسلحة ألا تستقوي بالخارج المعادي لإحداث هذا التغيير لأنه لن يكون لا حقيقياً ولا جذرياً وسينسف السيادة الوطنية بكل المقاييس.
إن الغوص في تفاصيل المشهد السوري على أساس استقطاباته الحادة القائمة سياسياً وإعلامياً فقط، تماماً مثل الجهل بها أو ببعضها، يسهم في تشويش الصورة لدى البعض، ويجعلهم يخرجون، حتى عن حسن نية ومن أرضيات «وطنية» و«قومية»، باستنتاجات منقوصة أو مشوشة، ولاسيما مع أحداث أو تصريحات تحدث هزة ما في الوعي الاجتماعي والشعبي والسياسي والوطني القائم.
«الوطنية».. تكامل أم تفرد؟
بالعمق وبالملموس، هل يكفي لتيار سياسي ما يعلن معارضته للقمع والاستبداد في سورية أن يضع صفة «وطني» في اسمه ليكون وطنياً حقاً؟ أم أن المسألة تتجاوز المسمى للرؤية والبرنامج والأهداف ومقدار الارتباط بالمصالح الجذرية السياسية والاجتماعية للناس؟ ولا تقل هنا أهمية الأدوات والوسائل في تحقيق الهدف أو البرنامج، وبمن يجري «الاستقواء»..!
بالمثل، من حيث المبدأ فإن مناهضة أي نظام للمخططات الخارجية ومجابهة أدواتها وأزلامها على الأرض هو موقف وإجراء وطني، ولكن بالعمق وبالتجربة هل هو كاف وحده لتجذير سمته الوطنية ودوره الوطني ومردوديته؟
تثبت الحياة تدريجياً أن تحديد سمة أو طبيعة جهة ما أو نظام ما إنما يقوم على «التكامل» وليس على «التفرد»..!
فعندما نقول إن تشكيلاً سياسياً «معارضاً» ما، هو عميل، فلأنه يستقوي بالأجنبي أو الخارج المعادي بكل الوسائل للوصول إلى السلطة، بغض النظر عن طبيعة برنامجه المعلن أو قاعدته الجماهيرية، على اعتبار أن الاستقواء بالخارج هو برنامج متكامل بحد ذاته.
بالمثل عندما يريد أحد أن يصف نظاماً ما بأنه «وطني»، بحسب الصيغ الدارجة في منطقتنا، فإن هذا المفهوم ينبغي أن يكون متكاملاً بالسياسة والاقتصاد والمجتمع وبالأشكال الديمقراطية الناشئة عنها بالمحصلة. وإلا كيف يتسق الموقف الوطني المعادي للغرب والصهيونية والامبريالية والاحتلال الإسرائيلي مع سياسات اقتصادية ليبرالية، تستدعي ضمناً مثلاً انتشار وازدهار منظمات غير حكومية، لتزيد بمجملها الارتباط والتبعية بكل هؤلاء الأعداء؟ وما نمط الشكل الديمقراطي الذي سيسمح للشرائح الشعبية بالدفاع عن خياراتها الوطنية؟ ففي نهاية المطاف أثبتت التجارب أن الموقف المقاوم يحتاج لاقتصاد مقاوم ومستوى معين من الحريات السياسية الشعبية المقاومة..!
الطعن بظهر الوطنية..
وإذا كان المرء سيكتفي بالتفرد لا بالتكامل كيف تصبح معايير تبيان الخيط الأبيض من الأسود في الوطنية والعمالة في ظل نمو حيتان الفساد وتمركز الثروة وتحولها إلى سلطة موازية بحد ذاتها تطعن بظهر وطنية المواقف السياسية؟ أو بالمقابل كيف تصبح هذه المعايير ذاتها مع ظهور معارضات تسمي ذاتها وطنية ولكنها بالواقع عميلة تستقوي بالخارج بكل السبل والوسائل بهدف وصولها الانتهازي للسلطة؟
ولكن الطامة الكبرى في ذلك كله هي وضع الجماهير أمام ثنائية وهمية، وكأن لا خيار ثالثاً غيرها، كما جرى- وبدون وضع إشارات مساواة ميكانيكية في أوضاع وخصائص البلدان العربية المختلفة- مع الشعب العراقي قبيل الغزو الأمريكي: إما النظام «الوطني» الديكتاتوري على شعبه، والفاسد ببنيته، أو الديمقراطية الأمريكية المستبيحة للسيادة والمسوّقة عبر معارضات عميلة، أي انتقال العراق من حكم الطغاة إلى حكم الغزاة، ومن يمثلهم من الخونة والعملاء.
الأصالة بمواجهة الوهم
إن بقاء الباحث أو المحلل أو المراقب أو السياسي أسير إحداثيات الثنائيات الوهمية دون طرح بديل جذري ثالث أو رابع أو غيره هو ما يجعل طبيعياً ضمن منطقه أن يطرح السؤال: هل تمرير واقعة المعارضة العراقية غير الجديرة باستلام السلطة وهي القادمة على الدبابات الأمريكية هو الذي جعل من الممكن قبول المعارضة السورية الحالية التي عجزت عن إغواء العدو ليحملها على دباباته؟! ليستنتج أن الخلل ليس فقط في من يخدم العدو بل أساساً في من لا يحاسب خادم العدو!!
إن الإصالة والجرأة بحد ذاتها لدى أية قوة وطنية تتفاعل مع الأزمة السورية، بغض النظر عن تموضعها الحالي اليوم في صفوف الموالاة أو المعارضة، تستدعي كسر هذه الثنائية وعدم الانزلاق لوضع الذات أو الجماهير المتحركة أو المراقبة المنتظرة شبه الساكنة أمام الاختيار بين «أفضل الأسوأ»: النظام السوري الذي له في كل الأحوال أرضية جماهيرية وشعبية ما ولكنه يتحمل مسؤولية أساسية، تاريخياً وحالياً، في مآلات الوضع السوري، أو المعارضة غير الوطنية العميلة للخارج الفاقدة لأية قاعدة شعبية يعتد بها والتي تتحمل جوانب أساسية أخرى من تلك المسؤولية. أي أن المطلوب هو صياغة البديل الوطني المحاسب لجميع الأطراف والمتكامل سياسياً واقتصادياً اجتماعياً، بغض النظر عمن سيصل به إلى السلطة.. وإلا ما معنى وما مفهوم أي برنامج/ ممارسة وطني/ـة؟
أبعاد مقاطعة «جنيف»..
وبالحالة السورية الملموسة اليوم، ما معنى العزف على وتر مقاطعة «مسلسل جنيف» سوى إطالة أمد الأزمة السورية والنزيف السوري على كل الجبهات في ظل حجم التدخل الدولي المستفحل بسورية بأشكال مختلفة؟ وكيف سيتسنى لأي حوار سوري- سوري اليوم، وليس في 2011، أن يوقف التدخل الخارجي من مسلحين وأموال وسلاح ويوقف العنف بالتالي، من دون إطار دولي وإقليمي ملزم لمختلف قوى العدو الخارجي بهذا الخصوص، وهو متاح حالياً اليوم وحصرياً عبر جنيف؟ وهو الإطار المطلوب منه بعد إنجاز هاتين المهمتين فسح المجال للسوريين وبأقل تأثيرات خارجية لتقرير مصيرهم واختيار عمليتهم السياسية وإنجازها، والتي يقف في مقدمتها، إن كانت حقيقية، أن تصوغ وتتبنى مرحلياً النموذج الوطني المتكامل المطلوب، وبأقل موروثات من الثنائيات الوهمية، أي بلا شوائب أو شبهات وطنية.
وعليه بالملموس أيضاً، اليوم وضمن ميزان القوى الدولي الناشئ لا تزال هناك واشنطن التي تتبنى طرفاً «معارضاً سورياً» مرتبطاً بها، وبعضه أو غالبيته- لافرق- عميل مباشر لأجهزة استخباراتها، وهو المعتمد من قبلها للتمثيل على طاولة جنيف. وضمن الواقعية السياسية في البحث عن مخارج للأزمة السورية اضطر حتى النظام السوري للجلوس والحوار معها، غير أن التطورات الموضوعية ووصول هذا الحوار إلى طريق مسدود، كما أرادته واشنطن، بات يستدعي تصحيح مسار جنيف لجهة تمثيل كامل طيف المعارضات السورية، وتحديداً الوطنية منها، من أجل «تهميش حجم ودور العملاء على الطاولة ووصول المؤتمر إلى غاياته (المذكورة أعلاه) وكنس كل المتاجرين أينما كانت مواقعهم بقضايا السوريين وآلامهم» كما جاء في تصريح «الإرادة الشعبية» بخصوص التصريحات مدفوعة الثمن من المدعو كمال اللبواني العميل ومن على شاكلته والذين يثبتون أنهم أوراق محروقة وملفوظة من عموم الشعب السوري أولاً.