ثورة أم مؤامرة.. أم أزمة؟
على مدى ثلاثة أعوام، لا يزال السجال محتدماً حول سؤال يخفي وراءه الكثير؛ فهل ما يجري في سورية «أزمة» أم «ثورة» أم أنه «مؤامرة»؟
اليوم، وبعد أن مضت ثلاثة أعوام على تاريخ 15-3-2011، الذي غيّر وجه سورية، من بلدٍ كان يعيش تناقضات طبقية وسياسية ووطنية، عميقة وكامنة، إلى آخر تنفجر فيه تدريجياً كل تلك التناقضات، مؤديةً بدورها إلى انفجار تناقضات جديدة، ما برحت تظهر ليس على المستوى الوطني العام فحسب، بل وعلى المستوى الدولي أيضاً. ماذا يمكن تسمية الشيء الذي مرّت به سورية؟!
لا تزال قوىً وأطراف عديدة تتشبّث بتوصيفاتها الخاصة للأزمة: هي «ثورة» بحسب قوى ائتلاف الدوحة وبعض المعارضات الأخرى. و«مؤامرة» في المقابل، لدى أوساط النظام والموالاة المتشدّدة. «وملفاً سورياً» بالنسبة للغرب الأمريكي والأوربي، بما يعكسه ذلك من درجة تدويل للأزمة السورية، وتحوّلها إلى مادة دسمة للتفاوض في «المجتمع الدولي». وتستند مجمل هذه الأطراف، في الدفاع عن توصيفاتها الخاصة للأزمة، في كثير من الأحيان، إلى أجزاء وجوانب من الواقع، ولكن ليس جوانب الواقع كلّه، فليس خافياً على أحد أن الأزمة السورية حملت سمّات محدّدة من كلّ التوصيفات المذكورة. فبعد أن بلغت التناقضات في الدولة والمجتمع السوري درجة محدّدة، قبل ثلاثة أعوام، نشأت موضوعياً حركة احتجاجية، لفتت أنظار المجتمع وجهاز الدولة إلى ضرورة تصحيح الواقع الذي خلّفته الأزمات المتراكمة قبلاً، وفي هذه النقطة بالضبط من عمر الأزمة السورية بات ممكناً القول بظهور الحركة الشعبية؛ بمعنى أن الجماهير اندارت إلى النشاط السياسي موضوعيّاً لحل الأزمات التي يعاني منها المجتمع وجهاز الدولة، ونشأت إمكانيّة إجراء التغيير المطلوب مع تبلّور رافعته، أي الحركة الشعبية، فنشأت «حالة احتجاجية» حملت إمكانية إحداث التغييرات الحقيقية المطلوبة، لكنها لم ترتق في درجة تنظيمها إلى مستوى ثورة. وفي مثل هذه الظروف ينفتح الطريق للسير ليس إلى الأمام فقط بل وتنفتح إمكانية السير إلى الوراء أيضاً.
قوبلت الحركة الشعبية بالعنف، في البداية على نحوٍ مباشر من بعض أجهزة الدولة، ولاحقاً على نحوٍ غير مباشر من خلال تسلّل عناصر متشدّدة إلى الحركة الشعبية، مدعومة من الخارج، ومستفيدة في الوقت ذاته من الوضع الذي خلّفه عنف بعض أجهزة الدولة. وبدأت هذه العناصر بمحاولات جرّ الحركة الشعبية إلى العنف، وانفلتت التدخلات الخارجية العسكرية، غير المباشرة، مع استمرار محاولات تحويلها إلى تدخّلٍ عسكريٍ مباشر. انطلق النظام من هذه الوضعية لتثبيت توصيفه الخاص، «مؤامرة»، التي كانت بلا شك تقف خلف الحدود، وتنتظر الدخول من خلال التدخلات الخارجية، ولكنها كانت موجودة وتقف هناك منذ تشكّل الجهورية العربية السورية، ولم يتسنّى لها الدخول إلا حينما أتاحت لها «الأخطاء» ذلك.
لماذا هي أزمة؟
تنطلق معظم القوى التي تعطي الأزمة توصيفها الصحيح، كأزمة، من كل جوانب الواقع، وليس من بعضها؛ وتنطلق تحديداً من حالة استعصاء الحلول العسكرية التي تعيشها جميع الأطراف، فلا الحركة الشعبية ولا النظام بقادرين على حسم الصراع كل لمصلحته، وليسا بقادرين على إنهاء التدخل الخارجي، وتطويق «المؤامرة».
هي أزمة لأنها بحاجة إلى حلّ حقيقي، هو الحل السياسي. فيما يستدعي منطق «الثورة» و«المؤامرة»، في الحالة السورية، ضرورة إحراز «النصر» على الآخر، الذي يعني بالملموس «الحلول» العسكرية، بأحد اتجاهيها المعروفين، «الحسم» و«الإسقاط». هذا أحد أسباب إصرار كل من الطرفين المتشدّدين على الاحتفاظ بمقولتي «الثورة» و«المؤامرة»، في السجل «النضالي» الخاص لكلّ منهما. أما السبب الآخر، فهو صعوبة تراجع الطرفين عن التضليل والعبث الذين مورسا بحقّ وعي الجماهير، من خلال شد عصبها بواسطة هاتين المقولتين، في خطابيهما السياسي والإعلامي، على مدى ثلاثة أعوام، وما ترتّب على ذلك من صعوبة في الانعطاف في الخطاب نحو الحل السياسي.
إن تشويه الواقع يقتضي، بأحد أشكاله، الاقتصار على جوانب محدّدة منه، والنظر إليه بعين واحدة، ولكن في المقابل «الوقائع أشياء عنيدة»، كما يقول المثل، وهي تطرح نفسها كاملةً غير منقوصة. وأمام امتحان الواقع سقطت كل «الحلول» التي انطلقت من ثنائية «الثورة- المؤامرة» في سورية، فيما بقي الحل السياسي حلّاً وحيداً وإجبارياً للأزمة السورية.