الحركة الشعبية.. وخطر الفاشية الجديدة
الحركة الشعبية اليوم واقع لا يمكن إنكاره؛ فبما أنّها تعني دخول ملايين الجماهير إلى درجة عالية من نشاط سياسي، يمكن القول إنّها باتت ظاهرة تواصل صعودها على النطاق العالمي: ظهرت إرهاصاتها الأولى في مطلع الألفية الثالثة، في العديد من العواصم والمدن الغربية، أمام مؤتمرات مجموعة الثمانية، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، في إطار «مناهضة العولمة» والاحتجاج على السياسات الرأسمالية ونهب الشركات العابرة للقارات. ثم واصلت الظهور ضد قانون العمل الفرنسي، وفي انتفاضة المهاجرين في ضواحي باريس
وفي عام 2008 ظهرت في إضرابات المحلّة العمالية في مصر، والاحتجاجات على العدوان الصهيوني على غزّة. إلا أن الظهور الباهر للحركة الشعبية، بدأ في تونس ومصر 2010، بخروج ملايين من الجماهير مع شعار «الشعب يريد..»، وامتدّ إلى العديد من الدول العربية، ثم إلى تركيا، ومؤخّرا في تايلاند وأوكرانيا وفنزويلا.
إذا وضعنا جانباً الشكل الذي اتخذّه ظهور الحركة الشعبية في كل بلد، والعيوب التي ترافقها، أو تُنسب لها، والاتّجاهات التي وُظّفت بها، نجد أن التناقضات الطبقية والسياسية والوطنية هي الجذر الأساسي لهذه الظاهرة التاريخية. فالعالم المعاصر، الذي تعاني الكثير من شعوبه من الفقر والبطالة والتفاوت الطبقي والدكتاتورية والحروب الامبريالية، لم يعدّ مقبولاً أن يبقى هكذا، من وجهة نظر شعوبه، وبالأخصّ تلك الأكثر عرضةً للنهب الاستعماري، وعسف الأنظمة التي أنتجها هذا النهب..
أمريكا تطلق النار..
تعرّضت الحركة الشعبية، منذ بداية ظهورها، إلى خطري العنف واختراق صفوفها وشعاراتها من جانب أعدائها. أمريكا كانت أول من أطلق النار عليها، في مظاهرات سياتل عام 1999 ضدّ عقد اجتماعات «منظمة التجارة العالمية»، ومع تصاعد حدّة تلك التظاهرات وأعداد المشاركين بها، لجأت القوات الحكومية الأميركية في حينه إلى إدخال مجموعات تخريبية تتبع لها لتلك التظاهرات، للإساءة إلى الرسالة السياسية التي حملتها.
وتكرّست الطريقة الأمريكية في التعامل مع الحركة الشعبية، وتطورت مع اتساع دائرتها أفقيا وعمودياً. إذ تواجه الحركة الشعبية اليوم، في البلدان التي ظهرت فيها على نحوٍ واسع، العديد من التحديات الداخليّة والخارجية، ففضلاً عن ضيق الأفق المؤقّت الناجم عن الطابع العفوي، تواجه خطري التدخل الخارجي والعنف، إذ تسعى أمريكا، ومعها الغرب الأوربي، إلى التحكم بمسار الحركة الشعبية- التي فجّر ظهورها التناقضات المتعدّدة- لتوظيفها في مواجهة الخصوم الدوليين، روسيا والصين، كما هي الحال اليوم في أوكرانيا، مثالاً، أو لمواجهة أنظمة وطنية وديمقراطية، أعاقت النهب الغربي لبلدانها، وخلقت نموذجاً فريداً من العدالة الاجتماعية، كما هي الحال في فنزويلا..
أما الأداة التي لجأت وتلجأ إليها الولايات المتحدّة الأمريكية في ذلك فهي دفع الحركة الشعبية نحو العنف والتسلّح، وتمجيد هذا الخيار، الأمر الذي يفسح المجال أمام زيادة منسوب التدخلات الخارجية، وصولاً إلى تدويل أزمات البلدان، ونزع القرار من يد شعوبها وحصره في إطار المساومات الدولية. ويتوفّر الأساس الموضوعي لانفجار الصراعات المسلّحة، مع ظهور الحركة الشعبية في أي بلد، لدى وجود البعض في السلطة والمعارضة فاسدة ومؤثرة، تحمل برامج سياسية واقتصادية- اجتماعية معادية للحركة الجماهيرية، إذ تسعى هذه الأجزاء للحفاظ على آليات النهب الليبرالية وتتصارع فيما بينها على الإمساك بدفة ذلك النهب، لتستدعي كل أصناف التدخلات الخارجية دون ذلك الهدف، في هذه الحال يصبح اللجوء إلى الحرب خياراً وحيداً لبقائها في السلطة والاستيلاء على الثروة، أما اللجوء إلى الحلول السلميّة فيضع تلك البرامج السوداء تحت مكبّرة الحركة الشعبية التي ما انفكّت رؤيتها تتسع..
تلك التحديات التي تواجه الحركة الشعبية، تتشابه من مكان إلى آخر، وبالأخص تحدي الدخول في نزاع مسلّح، فليس لدى الجناح الفاشي في الإدارة الأمريكية أي خيار آخر لمواجهة الأزمة الاقتصادية الرأسمالية التي تعتمل في قلب هذه الأخيرة، أمريكا، وعلى هذا الأساس تبلّور أمريكا أدوات متخصّصة بالإرهاب وتسند إليها مهمّة تفجير الصراعات المسلّحة في بلدان عدّة تشهد نهوضات جماهيرية واسعة، كتنظيم القاعدة في منطقتنا، والنازية الجديدة في أوكرانيا، وغيرهما.. إلا أنّ الحركة الشعبية تواصل التعلّم من تجربتها القصيرة بالمعنى التاريخي، إذ تصعد موجات جديدة من داخلها لتنقلب على أخطاء الماضي، ولتسدّ الثغور التي تتسلّل منها العناصر الفاشيّة الجديدة. وعلى هذا الأساس يمكن فهم خروج مظاهرات مناوئة للفاشية الجديدة في أوكرانيا، مدافعةً عن الإرث الحضاري لهذا البلد، بالتوازي تطالب بالتغيير الحقيقي. وكذلك يمكن فهم دعوة الرئيس الفنزويلي، المنتخب ديمقراطياَ، للحوار، وهروب المعارضة المرتبطة بالغرب من هذا الخيار