استمرار جنيف ونجاحه ضرورة وطنية
بدأ الخطاب «الحربجي» الأمريكي بالتصاعد مرةً جديدة منذ ما قبل انتهاء الجولة الثانية من مؤتمر «جنيف-2» وحتى اليوم، من الحديث عن «إعادة دراسة السيناريوهات الأمريكية المختلفة تجاه سورية»، إلى الإعلان عن دفعاتٍ جديدة من السلاح، وصولاً إلى حديث أوساطٍ في المعارضة الخارجية، عن معركةٍ كبرى تبدأ من الجنوب
إنّ العودة الأمريكية إلى هذا النوع من الخطاب، تدّل صراحةً على بؤس الخيارات الأمريكية وضيقها، فإذا كان التيار الفاشي الجديد ضمن الولايات المتحدة والمنظومة الغربية قد سيق مرغماً إلى جنيف، وعمل جهده خلال الجولتين الأولى والثانية على إفشاله، فإنه يحاول في هذه الأثناء الاستفادة من العراقيل الحاصلة للخروج نهائياً من منظومة الحل السياسي والنكوص باتجاه منظومته المفضلة: الحرب..! ويتساوق معه مؤقتاً التيار الأمريكي الآخر الذي نسميه اصطلاحاً بالعقلاني، فهذا الأخير يأمل باستثمار الموجة الفاشية لمصلحته أياً كانت نتائجها، فإن هي حققت تغييراً ما في التوازنات على الأرض السورية استفاد بتحسين مواقعه الضعيفة والمربكة في جنيف، وإن لم تفعل فإن ذلك سيسهل عليه المعركة ضد خصمه وشريكه الفاشي..
وأياً كانت استهدافات الإدارة الأمريكية بشقيها، فإنّ المسألة الأكيدة هي أن مجرد دخولها «مؤسسة جنيف»، يشكل مفصلاً هاماً في عملية انعطاف تاريخية باتجاه الاعتراف والقبول السلمي بواقع التوازن الدولي الجديد.
والأكيد أيضاً على المستوى الإقليمي، أنّ استمرار جنيف وتدارك نواقصه سيلجم قوى التدخل الخارجي شيئاً فشيئاً، ليلقيها خارج المعادلة السورية في نهاية المطاف.
والواضح أيضاً على الأرض السورية، أنّ جنيف فتح الباب واسعاً أمام جملة من «الهدنات والتسويات» الهامة في مناطق متعددة، وذلك رغم أنّ لجوء طرفي التسوية إليها قد يبدو مبنياً على دوافع تكتيكية بحتة- وقد يكون كذلك حقاً. ولكنّ منطق الضرورات السياسية والوطنية السورية، ومنطق التوازن الدولي، سيجعل هذه «التكتيكات» «استراتيجيات»، لأنها تصب تحديداً في اتجاه الحل السياسي عبر جنيف وتبرهن على مدى فاعليته وضرورته. ومن جانبٍ آخر فإنّ هذه التسويات، بما لها وعليها، إنما هي انعكاس وإبراز لرغبةٍ شعبية عميقة وواسعة، وأصبحت راسخة، باتجاه المصالحة والتسامح والخروج من حالة العنف وهي محفزة إيجاباً للأماكن الأخرى، كما برهنت أيضاً على صحة ما قلناه مراراً عن ضرورة التمييز بين أصناف المسلحين، وإمكانية وأهمية استقطاب قسمٍ هامٍ من المسلحين السوريين للحوار معه، بوصف ذلك خياراً آخر يوضع أمامه، مع ما تتطلبه العملية من إجراءات بناء للثقة المتبادلة، بهدف إعادة توحيد جميع السوريين في مواجهة الخطر الأبرز حالياً، والمتمثل بالإرهاب التكفيري الوافد.
وباختصار فإنّ جنيف- الحل السياسي، يسير على الأرض، وبين السوريين، بوتائر أسرع بكثير من تلك التي على الطاولة، وينبغي لذلك تعديل الطاولة بحيث لا يجري الاكتفاء بالحديث عن المصالحة بل العمل بعقليتها. فهل كانت هنالك ضرورة لتدخل هيئات ومؤسسات دولية لحل مسألة حمص القديمة مثلاً؟! أم أن الحديث عن حل «سوري- سوري» شيء، وتطبيقه شيءٌ آخر!! وهذا يعني ضرورة القطع الكلي مع أية عقلية إقصائية تظهر كامتدادٍ للمادة الثامنة القديمة لدى أي من الأطراف المعنية بالأزمة السورية، سواء من الحاضرين اليوم في جنيف أم من المطلوب موضوعياً حضورهم وتمثيلهم، بحيث يجري الإقلاع من كل الأطراف عن ترداد مقولة «التمثيل الحصري» للشعب السوري. إن عقليةً كهذه لن تفعل سوى أنها ستعقد الأمور أكثر وتزيد التكاليف القاسية التي يدفعها الشعب السوري يومياً، ولذلك فإنّ حضور معارضة وطنية جدية، تسعى حقاً وفعلاً للتغيير الجذري الشامل والعميق والسلمي للمنظومة التي استنفدت دورها موضوعياً- مقابل عدم تبلور المنظومة الجديدة بعد- بات اليوم ضرورة وطنية قصوى يجب النضال لتحقيقها بكل الوسائل الممكنة، بما فيها انتزاع حضورها بـ«جنيف» انتزاعاً.